فصل: باب: مَنْ أَدْرَكَ مِنَ الفَجْرِ رَكْعَة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فيض الباري شرح صحيح البخاري ***


باب‏:‏ وَقْتِ المَغْرِب

فأحالَها على اسمِها ولم يُوقِّت‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وقال عطاء‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ الخ وهو جمع صُوري عندنا، وفي الحديث‏:‏ «إنَّ أمتي لن يَزالوا على الخيرِ ما عجَّلوا العصرَ وأخَّروا السَّحور»- بالمعنى- وذلك لوقوعِ التحريفِ فيهما عن أهل الكِتاب‏.‏ فوجبَ التحذيرُ عنه لتُحْفَظَ الحدود‏.‏ أَمَّا الاحتياط فيه بعد الوقت فلغوكما قد يفعله الجهلاءُ من الصلحاء‏.‏

559- ‏(‏مواقع نَبْلِهِ‏)‏ ومعلومٌ أَنَّ السنة المتوارِثة في قراءة المَغْرِب هي التقصير، وإِنْ وَرَدَ التطويلُ أيضًا في بعضِ الأحيان‏.‏

560- ‏(‏إذا وَجَبَت‏)‏ ومنه الواجب، وهذا كَمَن شال على رقبته حملا، فتلقاهُ واحدٌ في الطريق فأعطَاهُ حملا آخر ليحمِله فلزمه حمله كالضِّغْث على الإِبَّالة فهكذا الغَرَضُ، ثابت بالدَّليلِ القطعي، ويَلْزَمُ عليه إلا أَنَّ الواجب لمَّا ثَبَتَ بالدليل الظني لَزِمَهُ أيضًا، وسَقَطَ عليه، فالواجبُ هو الساقط بهذا الطريق‏.‏ قاله فخر الإِسلام‏.‏

560- ‏(‏وإذا رآهم‏)‏ وهذا نصٌ في رعاية حال القوم، وعند البيقهي‏:‏ أَنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلّم كان يقومُ للصَّلاةِ فإِذا رآهم لم يجتمعوا قَعَدَ- بالمعنى ‏.‏

وفي «المبسوط» في باب التيمم‏:‏ أَنَّ فضلَ الإِبرادِ بالظُّهْرٍ والإِسفارِ بصلاة الفجر، إِنَّما هو عند عدمِ اجتماعِ القوم، فإِنِ اجتمعوا قَبْلَه فالأفضل التَّعجِيل، وعُلِم من هذه الرِّواية تَعْجِيل العشاء أيضًا لحالِ القوم‏.‏ وعند أبي داود‏:‏ أَنَّه كان يقومُ في الرَّكعةِ الأولى مِنْ صَلاةِ الظُّهْرِ حتى لا يَسْمع وَقْعَ قدم وفيه عن أبي قَتادة رضي الله عنه‏:‏ فظَنَنَّا أنَّه يريدُ بذلك أَنْ يُدْرِك الناسُ الركعةَ الأولى‏.‏ وهذا من تَفْرِيعَات مَنْ ظَنَّ أَنَّ مُدْرِكَ الرُّكوعِ ليس بمدرك للركعة، وإلا فَلَيس مِنَ الصحابة رضي الله عنهم مَنْ كان يُنكر إدراك الركعة بإِدْرَاك الركوع فاعلمه‏.‏

باب‏:‏ مَنْ كَرِهَ أَنْ يُقَالَ لِلمَغْرِبِ العِشَاء

والعربُ كانوا يَعْكِسُون في التسمية فكانوا يُسمون العشاء العَتَمَة، فَوَرَدَ الشرعُ بإِصلاحِه، وعَلَّمهم ما ناسب كل صلاة اسمها، فهذا مِنْ باب تعليمِ الآداب، لا مِنْ بابِ الأمر والنَّهي‏.‏

واعلم أنَّه قد مرَّ منَّا التنبيه على أَنَّ تَعارُضَ الأدلةِ قد يكونُ لإِفادةِ المراتب، وقد يكونُ لكون الشيء مِنْ عالم الغيب‏.‏

والثالث لكونِه من باب المحاسِن فيوجد التعبير بالمكروه مع المنع عنه، وهذا لأنَّه يكون جائزًا في مرتبة ولكنَّه يمجُّه السمع، ويَنْبُو عنه الطَّبْع فيكرهه الشرع أيضًا، ولذا يُوجد إطلاق العَتَمَة في الأحاديث، وإنْ كان أقل قليلا مع إظهار الكراهةِ، فيدل على أنَّه مِنْ باب تهذيب الألفاظ فقط، ولو كان من بابِ عَدَمِ الجوازِ أو الكراهة لم يرد به الشرع‏.‏ نعم، عند أحمد في «مسنده»‏.‏ مَنْ قال منكم يَثْرِب مكان المدينة فليقل المدينة المدينة عشر مرات- بالمعنى- فإِنَّه يُشْعِر بالكراهة شيئًا، والأمر بَعْدُ سهلٌ‏.‏

باب‏:‏ ذِكْرِ العِشَاءِ وَالعَتَمَةِ، وَمَنْ رَآهُ وَاسِعًا

باب‏:‏ وَقْتِ العِشَاءِ إِذَا اجْتَمَعَ النَّاسُ أَوْ تَأَخَّرُوا

أَلانَ المصنِّف رحمَهُ الله كلامَهُ في هذا الباب، لورُودِ إطلاق العَتَمة أيضًا‏.‏ وقال‏:‏ ‏(‏ومن رآه واسعًا‏)‏ كأنَّه لا يَحمله على رَقَبَتِه فَيَنْسِب التوسعة فيه إلى مَنْ كان يَرَاه، وهكذا يَفْعَلُ المصنِّف رحمه الله تعالى في غير واحدٍ مِنَ المواضعِ، فَيَضَع لفظ «مَنْ» الموصول، إشارةً إلى أنَّه ذَهَب إليه ذَاهِبٌ فهو سائِغٌ ولا يَجْزِم به لِعَدَم الدَّليل القاطع عنده، أَوْ لِعَدَمِ اختياره لأسبابٍ سَنَحَت له، ثُمَّ أَتى بقطعات عديدة وَرَدَّ فيها إطلاق المشتق، وبطريق العلمية أيضًا‏.‏

- قوله‏:‏ ‏(‏ويُذْكَرُ عن أبي موسى‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ الخ، وهو عند أبي دَاود أيضًا‏.‏ فمرضه بالنسبة إليه، وإلا فقد أَخْرَجَهُ المصنِّف رحمه الله تعالى موصولا في الباب التالي أيضًا وقد مرَّ منَّا أنَّ المصنِّف رحمه الله تعالى قد يُمَرِّضُ لمعنى غير التضعيف وهو أنَّه يورد الحديثَ بالمعنى وقَدْ يَقْتَصِر على بعضه لوجود الاختلاف في جوازه، وإن كان المصنِّف يَرَى الجواز، نبه عليه الحافظ‏.‏

- قوله‏:‏ ‏(‏نتناوب‏)‏ يعني كُنَّا نازِلين مِنَ الحَبَشَة في موضع فَكُنَّا نتناوب منه إلى النبي صلى الله عليه وسلّم وهذا التناوب وَرَدَ في الجمعة أيضًا فانْظُر ماذا يُفيد‏؟‏‏.‏

- قوله‏:‏ ‏(‏فَاعْتَمَ به‏)‏ وهذا على صرافة اللغة، ولا كلام فيه، وإنَّما الكلامُ في إِطلاقِ العَتَمَة لأنَّها غَلَبَت عليها العَلَمِيَّة عندهم، كما قالوا في المُرْسَلِ والمُنْقَطِع لا فَرْقَ بين فعليهما مَعَ ثبوتِ الفَرْقِ بين اسمي المفعول، فيقولون‏:‏ إنَّه مُرْسَلٌ إذا حَذَفَ التابعيُّ اسم الصحابي خاصة، ويقولون‏:‏ أَرْسَلَهُ فلانٌ سواء سَقَطَ ذِكْرُ الصحابي أو راوٍ آخر مِنَ السَّنَد فَيُطْلَق المشتق على المنقطع أيضًا‏.‏ وفي «الفتح» أَنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلّم إنَّما اعتم به لما اشتغل بأبي بكر رضي الله عنه في بعضِ أمور المسلمين‏.‏

564- قوله‏:‏ ‏(‏فإِنَّ راسَ مئة سَنَةٍ منها لا يَبْقَى ممن هو على ظَهْرِ الأرض أحدٌ‏)‏ وقد مرَّ بعضُ الكلامِ عليه، والمرادُ به مَنْ كان حيًا في هذا الوقتِ على وجه الأرض، وأَبْعَدَ مَنْ قال‏:‏ إِنَّ عيسى عليه الصَّلاةُ والسَّلام يَنْزِل بجسده المثالي بل يَنْزَل بجسده الأصلي ورده بحر العلوم في «شرح المثنوي» وأيضًا قال بعض الصوفية إِنَّ الخَضِرَ عليه السلام حيٌّ من عالم المِثَال‏.‏

باب‏:‏ فَضْلِ العِشَاء

اعلم أَنَّ حديثَ عائشة، وحديثَ أبي موسى رضي الله عنهما بعده حديثان متعدِّدَان، وواقِعَتان مختلفتان، وإنْ كان سطحهما واحدًا، فما في حديث عائشة رضي الله عنها واقعة قَبْلَ فُشُوِّ الإِسلام، وما في حديث أبي موسى رضي الله عنه واقعة متأخرة جدًا حين قَدِمَ أبو موسى رضي الله عنه مِنَ الحبشة في السَّنَة السابعة، وكان خَرَجَ مِنَ اليمنِ لزيارَةِ النبي الكريم عليه الصَّلاة والسَّلام، فنازعته الرِّيح حتى ألقَتْهُ في الحبشة فَسَكَن بها سبع سنين، ثُمَّ قَدِمَ مع جعفر رضي الله عنه ونَزَل بالبقيع، والبقيع‏:‏ اسم لكل مكان فيه أُرُوم الشجر من أنواعٍ شتى، وكان مثل هذه الأمكنة كثيرة في أرضِ العرب، فيحتاجُ للتمييز إلى الإِضافات كما ترى ههنا «بقَيع بُطْحَان»‏.‏

566- قوله‏:‏ ‏(‏نَامَ النِّساءُ‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ الخ‏.‏ أي مَنْ كانوا في المسجد، ويُمكِن أَنْ يُرَاد به أَنَّه حان وَقْتُ النَّومِ‏.‏ والأول أوجه‏.‏

567- قوله‏:‏ ‏(‏ما ينتَظِرُها أحدٌ من أهل الأرضِ غَيْركُم‏)‏ قال السيوطي رحمه الله تعالى إنَّ الحصر بالنسبة إلى أهل الكتاب وادَّعى في شرح البخاري أَنَّ العِشَاء لم تَكُنْ في أحد مِنَ الأُمَمِ غير هذه الأمة، وتَمَسَّكَ بما عند الطحاوي في باب الصَّلاةِ الوسطى وليس هذا عند غيره‏:‏ أَنَّ أول مَنْ صلَّى العشاء الآخرة نبينا صلى الله عليه وسلّم وقد مرَّ مني في أول كتاب الصَّلاة، أنَّ الصَّلاةَ كلها ثَبَتَت عن الأنبياء الآخرين أيضًا، إلا أنَّها لم تكُن مفروضة على أُممهم وكانت على بني إسرائيل الفجر والعصر فقط كما في النسائي إلا أَنَّ الشيخ السيوطي رحمه الله تعالى ذَهَبَ إلى أنَّ العشاء الآخرة لم يصلِّها نبي أيضًا فيمكِنُ أَنْ يقال‏:‏ إنَّها مختصة بهذه الأمة بوصفِ الفرضية، ومن دونهم وإنْ صَلوها فعلَى شاكلة النافلة، وحينئذ معنى قوله‏:‏ ما ينتظرها أي من حيث الفرضية، وقيل إنَّ الإِسلامَ لم يَفْشُ إذ ذاك إلى الأَطْرَافِ كما في متن الحديثِ فيكون الحصر بالنِّسْبَة إلى الكُفَّار‏.‏

قال الحافظُ‏:‏ والمرادُ أنَّها لا تُصَلَّى بالهيئةِ المخصوصة، وهي الجماعة إلا بالمدينة، وبه صرَّح الدَّاودي، لأنَّ مَنْ كان بمكةَ مِنَ المستضعفين لم يكونوا يُصلُّون إلا سِرًا، وأمَّا غير مكة والمدينة مِنَ البلادِ فلم يَكُنِ الإِسلام دَخَلَها‏.‏

قلتُ‏:‏ ويمكِنُ أَنْ يكون قوله بالنسبةِ إلى المسْجِدِ النَّبوي، فإِنَّ المساجدَ اليوم كانت تسعة كما عند الدَّارَقُطْني بإِسنادٍ ضعيف، وراجع كلام السمهوري فإِنَّه أيضًا ذَهَبَ إلى التعدد، وحينئذٍ يمكِنُ أَنْ يكون مراده ما يَنْتَظِرُها غيركم الذين قَدْ صلَّوْها في مساجدهم وَرَقَدوا؛ أمَّا دعوى السيوطي رحمه الله تعالى فتحتاج إلى تأمل‏.‏

باب‏:‏ ما يُكْرَهُ مِنَ النَّوْمِ قَبْلَ العِشَاء

ولا بَأس به إذا كان عِندَهُ مِنْ يوقِظُهُ، أو كان مِنْ عادتِه أنَّه لا يَسْتَغْرق وقت الاختيار بالنَّوم‏.‏ وحَمَل الطحاوي الرخصة على ما قَبْلَ دخولِ وَقْتِ العشاءِ والكراهةَ على ما بعدَ دُخولِهِ‏.‏

باب‏:‏ النَّوْمِ قَبْلَ العِشَاءِ لِمَنْ غُلِب

فقسم على الحالات وأَجَازَ لِمن غَلَبَ عليه النَّوم وكَرِهَهُ لمن لم يكُن كذلك‏.‏

569- قوله‏:‏ ‏(‏فيما بين أَنْ يَغِيبَ الشَّفَقُ‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ الخ‏.‏ قال الفراء- واسمه يحيى ‏:‏ إنَّ الشَّفَقَ هو البياض، قال الإِتْقَاني في «غاية البيان شرح الهداية»‏:‏ إنَّ الإِمام محمدًا والفراء ابنا خالة، وهو متقدم عن الشيخ ابنِ الهُمَام رحمه الله تعالى، ونَقَل عن الخليل أَنَّ البياض قد يَبْقَى إلى نِصْفِ الليل، وهو باطلٌ عندي، فإِنَّ البياض الذي بعد الحُمْرَة يَعْقُبه الظَّلام والبياضات بعدَهُ تكون غير هذا البياض‏.‏

ولنا‏:‏ ما عند الترمذي «حتى يَسْوَد الأفقُ» وليس هذا السواد إلا بَعْدَ البياض، أمَّا اللغة‏.‏ فالتحقيق فيه عندي‏:‏ أَنَّ الشَّفَقَ مِنَ الإِشفاقِ والشَّفَقَةِ هي الرِّقة فهو أَمرٌ بينَ البياضِ الناصع، والحُمْرَة القانية‏.‏ واعلم أَنَّ الوَقْتَ في اليوم الواحدِ من انبلاج الصُّبحِ الصَّادقِ إلى طُلوعِ الشمسِ، يكون كما بين غُروبِها وغُروب الشَّفقِ الأبيض في ذلك اليوم كذا حققَه الرياضيون‏.‏

ثم اعلم أنَّ تَرْدِيدَ وَقْتِ العشاء في الأحاديث مِنَ الثُلث والنِّصف إنَّما يُبْنَى على تَرْدِيد القُرْآن في صَلاةِ الليل، قال تعالى‏:‏ ‏{‏قم الليل إلا قليلا نصفه أو انقص منه قليلا أو وزد عليه‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏(‏المزمل‏:‏ 2- 4‏)‏ فقد وزع الله سبحانَه الليلَ كلَّهُ بين وظيفةِ العشاءِ وصَلاة الليل، فإِن جَعَلَ العشاء في النصف بقي النصف الآخر لصَلاةِ الليل، وإِنْ صلاها في الثلث بقي الثُلثان لصَلاةِ الليل وهكذا، وعليه الترديد في النُّزول، فيعلم مِنْ بعض الرِّوايات أَنَّه مِنَ الثُلث، ومِن بعض آخر أنَّه من النِّصف، ورجحَ الحافظُ أنَّه في الثلث الآخر‏.‏

والتحقيقُ فيه عندي أَنَّ الكلَّ صحيح، ويفصل بين النُّزول والنزول، فنوعٌ منه يكون على النِّصف، والآخر على الثُلث، ولا نَدْرِي ما كيفيات تلك النزولات، وأي فروق بينها، وسَيَرِدُ عليك تحقيقُ النزول وأشباهه إن شاء الله تعالى‏.‏

570- قوله‏:‏ ‏(‏وكان ابنُ عمر رضي الله عنه لا يُبالي أَقَدَّمَها أم أَخَّرَها إذا كان لا يَخْشَى أَنْ يَغلِبَهُ النَّوم‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ الخ، وهذا يدلُّ على جواز النَّوم حين أَمِنَ فَوَاتها‏.‏

571- قوله‏:‏ ‏(‏قال ابنُ عباس رضي الله عنه‏:‏ فَخَرج نبي الله صلى الله عليه وسلّم كأنِّي أَنْظُر إليهِ الآن‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ الخ، وهذه الواقعة متأَخِرَة جدًا، فإِنَّ ابن عباس رضي الله عنه جاء السنة الثامنة وقد أَدْرَكها، ثُمَّ إِنَّ نحو قوله‏:‏ ‏(‏كأَنِّي أَنْظُر‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ الخ، سَمَّاهُ النُحَاة استحضارًا وحكاية للحال والظاهر أَنَّه لم يُرِد بذلك بيان التثبُتِ فقط، بل أَرَادَ شِرْكته فيها‏.‏

571- قوله‏:‏ ‏(‏على الصُّدْغ وناحية اللحية‏)‏ وهي في اللغة ما نبَتَت على لحييه‏.‏ ويقال لها في الهندية‏:‏ دارهى‏.‏ لهذا المعنى لأنَّها تنبُتُ على الضرس- داره ‏.‏

باب‏:‏ وَقْتِ العِشَاءِ إِلَى نِصْفِ اللَّيل

وهو مستحبٌ إلى الثُلث، وجائزٌ إلى النِّصف بلا كَرَاهة، وبعدَهُ مع كراهةٍ تنزيهية، كذا حَقَّقَهُ ابنُ أمير الحاج‏.‏ وإليه ذَهَبَ الطحاوي‏.‏ واخْتَارَ بعضُهم التحريم إلا أَنَّهم استثنوا منه المسافر، فيجوز له بعد النِّصف بدونِ كَرَاهة‏.‏

قلتُ‏:‏ واستثني المسافر في المغرب أيضًا، فإِنَّ الحنفية إذا قالوا بالجمع الصُّوْري لَزِمَهُم القول بجوازِ تَأْخِيرِها وإِنْ كانت السُّنَّة فيها التعجيل‏.‏ ونُسِبَ إلى داود الظاهري والحسنِ بنِ زياد من الحنفية أَنَّ وَقْتَ العشاء إلى نِصْفِ الليل‏.‏

572- قوله‏:‏ ‏(‏ما انتظرتُمُوها‏)‏ وقد وَرَدَت في فضيلةِ انتظارِ الصَّلاةِ بعد الصَّلاة أحاديث ولم أتحقق لها صورة العمل غير إشارة في «شرح الموطأ» للباجي‏:‏ أنَّ السَّلف كانوا يَنْتَظِرون الصَّلاة بعد الصَّلاة وهكذا يُسْتَفَادُ من رِوَاية ابنِ ماجه ووجه التَّرَدد أني لا أرى في السَّلفِ شُهرة جُلوسِهم لانتظار الصَّلوات بعد الصَّلوات مع كَثْرةِ الأحاديث في فضيلتهِ فلا أدري هل المراد به تَعلقُ القلب فقط أو الجلوسُ الحسي أيضًا‏؟‏

باب‏:‏ فَضْلِ صَلاةِ الفَجْر

قلتُ‏:‏ وهذا مِنْ عادات المصنِّف رحمه الله تعالى أَنَّ الحديثَ إذا اشتمل على فائدةٍ، ويريد أَنْ بُنبِّه عليها، فإِنَّه يَذْكُرَها في الترجمة وإِنْ لم يُناسِب سلسلة التراجم، أعني به أَنَّ التَّراجِمَ إِذا تكون عندهُ مُسَلْسَلَة ثم تَبْدُو له فائدة في الأحاديث المستخرجة ويراها مهمة، فلا يَنْتَظر أَنْ يُبَوِّب لها بابًا، مستقلا، ولكِن يُفَرِّغْ عنها في ذيول هذه التراجم؛ وأسميه إنجازًا فقوله‏:‏ والحديث، أي‏:‏ الحديث بعد العشاء وإنْ لم يُناسب ذكره ههنا لأنَّه عَقَدَ الترجمةَ لفضلِ صلاة الفجر ولا مناسبة بينَهُ وبين الحديث بعد العشاء إلا أنَّه لمَّا كان مَذْكُورًا في الحديثِ المترجَم له ذكره إنجازًا‏.‏

وقد اضطرب في توجيهِهِ الشارحون، ولم يَأْتُوا بشيء فقال بعضُهم‏:‏ معنى قوله‏:‏ والحديث أي الذي جاء في فَضْلِ الفجر‏.‏

573- قوله‏:‏ ‏(‏كنَّا عند النبي صلى الله عليه وسلّم ‏.‏‏.‏‏.‏ الخ، وظاهرٌ أنَّه بعد صَلاةِ العشاء‏.‏

573- قوله‏:‏ ‏(‏لا تضامُّون‏)‏ وهو من الضمِّ أو الضَيمِ بمعنى الظُلم‏.‏ والمعنى على الأول‏:‏ أنكم تَرَوْنَهُ بغير مزاحمة بعضهم لبعض‏.‏ وعلى الثاني‏:‏ معناه‏:‏ بغير أن يَظْلِمَ بعضكم بعضًا لا تُضاهون ‏(‏تمهين شبه نه قال‏:‏ بريكا‏)‏‏.‏

573- قوله‏:‏ ‏(‏‏{‏فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ‏}‏‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ الخ، لا أقول إنَّ المرادَ من التسبيح الصَّلاة بل المراد منه هو التسبيحُ المعروف إلا أنَّه ما يكون في ضمن الصَّلاة وهكذا لا أريد مِنْ قوله‏:‏ «اركعوا واسجدوا» الصَّلاة ابتداء ولكن الركوع والسجود مستعملان في مسماهما؛ ثُمَّ المراد منهما ما يكونان في خِلال الصَّلاة وفائدة هذا التعبير، التنبيه على أَجْزَاء الصَّلاة وتعليمها، وحينئذٍ تَنْسَحب الآية على التسبيحات بعد هاتين الصَّلاتين أيضًا، فالأذكار بعد الفَجْرِ والعَصْرِ متطفلة وتابعة لهما دون الوقت، بخلافِها بعد المغرب فإِنَّها تابعة للمساء والصَّلاة معًا‏.‏

574- قوله‏:‏ ‏(‏من صلى البَرْدَين‏)‏ فيه تغليب‏.‏ وفي الجامع الصغير للسيوطي رحمه الله تعالى أَنَّ الرؤية إِنَّما تكون في هذين الوَقْتَين، فجاء التَّخْصِيص لهذا، ثُمَّ رَمَزَ عليه السيوطي بالصحة، ومَنْ خَدَمَهُ أَقرَّ أَنَّ تلك الرُّموز من جانب الشيخ رحمه الله، وفي «حادي الأرواح» رواية أَنَّ التميز في الجنة بين الليل والنَّهار، إنَّما يكون بإِرخاء السَّتر، وكشفه بين أهل الجنة، وبين ربهم جل وعلا‏.‏

باب‏:‏ وَقْتِ الفَجْر

لمَّا فَرَغَ عَنْ فَضْلِها شَرَعَ في وقتها‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏إنَّ زيدَ بنَ ثابت حدثه‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ الخ، وزيد بن ثابت هذا قَدْ دَخَلَ في صلاةِ ليله صلى الله عليه وسلّم ومذهبه في الوترِ كمَذْهَبِ الحنفية، وراجع‏:‏ «كشف الستر عن مسألة الوتر»‏.‏

واعلم أنَّ الخِلاف فيهِ بيننا وبين الشافعي رحمه الله تعالى في الاستحبابِ دون الجوازِ فمذهبنا على ما يُعْلَم من كلام الطحاوي، أنْ يَشْرَع بغَلَس ثُمَّ يسفر بها بالإِطالة وهو مذهبُ محمد وأبي يوسف رحمهما الله تعالى، كما يُستفاد مِنْ كتاب «الحجج» وصرَّح الطحاوي أنَّه قول أَبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن رحمهم الله تعالى، ولم يَذْكر بينهم خلافًا، ثُمَّ وجدتُ في كتب أركان النَّقل أنَّه مذهب محمد رحمه الله فقط، ومذهبُ الشيخين أفضلية الإِسفار بداية ونهاية، وحدُّ الإِسفار عندنا أَنْ يَفْرَغَ عنها، وقد بقي عليها من الوَقْت ما لو أَعَادَ فيه صلاته لعارض وَسِعَهُ قبل الطُّلوع مع رعاية السنن‏.‏

ومذهب الثَّلاثة استحباب التَّغْلِيس بداية ونهاية، فَيَدْخُل فيها كما طلع الفجر، ويفرغ عنها في الغَلَس، ويخالفه ما أخرجه المصنِّف عن ابنِ مسعودٍ رحمهما الله تعالى أنَّه قال‏:‏ ما رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلّم صلَّى صلاةً في غير وَقْتِها غير ذلك اليوم- يعني الفجر يوم المزدلفة ‏.‏ ومعلومٌ أنَّه لم يُصلِّها في ذلك اليوم إلا وَقَدْ طَلَع عليه الفَجْر، فَعُلِمَ أَنَّ الصَّلاة عَقِيب طُلوعِ الفَجْرِ صلاة في غير وَقْتِها، والصَّلاة في وَقْتِها أَنْ تُصَلَّى وقد دَخَلَت في الإِسفار كما قال النَّبي صلى الله عليه وسلّم «أسفِرُوا بالفجر‏.‏‏.‏‏.‏» الخ، ومِنْ ههنا عُلِمَ أَنَّه لا يَصِحُّ حَمْلُه على تَحَقُّق طُلوع الفَجْرِ، فإِنَّك قد عَلِمْتَ أَنَّ الصَّلاةَ كما تَحَقَّقت الفجر كانت بمزدلفة ثُمَّ عدَّها ابنُ مسعود رضي الله عنه في غير وَقْتِها فلا تكون مأمورًا بها مع أَنَّا أُمِرْنا أَنْ نُسْفِرَ بها فالإِسفار هو وَقْتُها على نصِّ الحديث، وهي عند تَحقُّقِ الفجرِ في غير وَقْتِها على ما ذَكَرَهُ ابنُ مسعود رضي الله عنه، فَعُلِمَ أَنَّ الصَّلاة عند تَحقُّق الفجرِ صلاة في غيرِ وَقْتِها‏.‏

قال النَّووي‏:‏ وقد يَحْتَجُّ أصحابُ أبي حنيفة رحمه الله تعالى بهذا الحديث على منعِ الجمعِ بين الصَّلاتين في السفر، لأنَّ ابنَ مسعودٍ رضي الله عنه قد أَخْبَرَ أنَّه ما رآهُ يَجْمَعُ إلا في هذه الليلة، ثمَّ رَدَّ عليه من وجوه منها أَنَّه متروكٌ الظَّاهِر بالإِجماع، لأنَّه لَمْ يَذْكُر الجمع بعرفة أيضًا مع أَنَّه مُجْمَعٌ عليه، ونَقَلَ الحافظُ رحمه الله تعالى رَدَّ النووي وسكت عليه‏.‏

قلت‏:‏ والجمعُ بعَرَفة أيضًا مذكورٌ عند النَّسائي قال كان رَسولُ الله صلى الله عليه وسلّم يصلِّي الصَّلاةَ لوقْتِها إلا بجمعِ وعَرَفات، فإِنْ كان خَفي على النَّووي فكيف خَفي على الحافظ‏.‏

ثم إنَّه نيطت بالإِسفار أَعْظَمِية الأجْرِ، فقال في موضعِ التعليلِ فإِنَّه أعظمُ للأجرِ والصَّلاة قَبْل التحقُّقِ باطلة فضلا عن حصولِ الأَجْرِ لتحصُلَ بعد التحقُّقِ أَعْظَمِية‏.‏ وفي رواية النَّسائي «كُلما أَسْفَرْتُم،فدَلَّ على مراتب الإِسفار في أَجْزَاءِ يوم واحد، وأَخْذ التكْرَارِ بحَسبِ الأَيَّام بعيدٌ، وعن يزيد الأَودي عند الطحاوي رحمه الله تعالى، قال‏:‏ كان علي بن أبي طالب كَرَّم اللَّهُ وَجْهَهُ يُصَلِّي بنا الفجرَ ونحن نَتَرَاءَى الشمس؛ مَخَافَةَ أن تكون قد طلعت‏.‏ وعن عَليّ بنِ رَبيعة قال‏:‏ سمعتُ عليًا رضي الله تعالى عنه يقول‏:‏ يا قنبر أَسْفِر أسْفِر‏.‏ ومثله عن عمرَ بنِ الخطاب أنَّه كان يُنَوِّر بالفجر‏.‏ كيف لا وقد أُمِرَ أَنْ يُسْفِرَ بالفجر، وراجعه بأسانيده عند الطحاوي، وعنده عن إبراهيم قال ما اجتمعَ أصحابُ محمد صلى الله عليه وسلّم على شيء ما اجتمعوا على التَّنوير، وهو مَحْمُولٌ عندي على بدايتِهم في التَّغْلِيس ونهايتُهُم في الإِسفارِ، كما حملُهُ الطحاوي فافهم‏.‏

أمَّا ما تمسُّكوا بما نقل في سُنِّيَّة التغليس حتى إذا استشهد عمر رضي الله تعالى عنه، فليس فيه ما يدلُّ على مَذْهَبِهم، فإِنَّ التَّغْلِيس في البداية لا ننكره أيضًا، وما عَمِلَ به عثمان رضي الله تعالى عنه فهو الإِسفار بداية ونهاية، ليكون خُروجهم في وقتٍ يأمنُونَ فيه، ولا يَخافون أن يُغْتَالوا كما اغْتِيل عمر رضي الله تعالى عنه، وأمَّا ما تمسكوا به ممَّا روي في حديث جبريل عند أبي ادود في سِيَاق تأخيرِ عمر بن عبد العزيز في صلاة العصر أنَّه صلَّى الصُّبحَ مرةً أخرى فأَسْفَرَ بها ثُمَّ كانت صلاته بعد ذَلك التَّغْلِيس حتى مات لم يعد إلى أَنْ يُسْفِرَ‏.‏ فقوله‏:‏ لم يعد‏.‏‏.‏‏.‏ الخ علله أبو داود‏.‏

وعندي له وجه، ومعناه‏:‏ أنَّه لم يعد إلى الإِسفارِ كما كان أَسْفَرَ بها في اليوم الثاني، وهكذا كان ينبغي، لأنَّ جبريل عليه السَّلام علَّمه آخر وقتها في ذلك اليوم، وقد عَلِمْتَ أنَّا لا نعني بالإِسفار أَنْ يُصلَّي بها بحيث لا يَبْقَى بعدَهُ وقتٌ، أو يَبْقَى وقتٌ لم يَسعْ للصَّلاةِ، أو وسعها لكنَّه لم يَسع لها مع مراعاةِ الآداب‏.‏ والدليل عليه ما أَخْرَجَهُ أبو داود في حديث جبريل أنَّه‏:‏ «لمَّا كان من الغَدِ صلَّى الفجر وانصرف، فقلنا‏:‏ أَطَلَعَت الشمس‏؟‏» انتهى‏.‏ فدلَّ على شِدَّةِ التأخيرِ بحيث توهم منه «طلوع الشمس ونحوه عند مسلم في حديث أبي موسى في قِصة تَعْلِيم الأوقاتِ أعرابيًّا «أنَّه أَخَّر الفجر من الغد حتى انصرف منها والقائل يقول قد طَلَعت الشمس أو كادت» انتهى‏.‏

فالصَّلاتين في هذين اليومين كانتا في شِدَّة الغَلَس مرةً، وفي شدة الإِسفار أخرى، ثُمَّ جَرَى عَمله على التوسط والذي يَظْهَر أَنَّ العملَ في عهدِ النبي صلى الله عليه وسلّم كان على التَّغْلِيس ولا يجب أن يكونَ بِقَدْرِ ما رامَهُ الشافعية رحمهم الله تعالى مع أَنَّ الزمانَ إذْ ذاك كان زمانَ الشدة في العمل، والنَّاس كانوا يَتَقَيَّدون بصلاةِ الليل، فلم تَكُنِ الجماعة تَخْتَل بالتغليس، ثُمَّ إذا نشأ الإِسلامُ وكَثُرَ المسلمون وعَلِمَ أَنَّ فيهم ضعفًا عَمَلَ بالإِسفار في زمن الصحابة رضي الله عنهم، لئلا يُفضي إلى تقليل الجماعةِ، وقد عَلِمْتَ فيما سَبَقَ أَنَّ بُطْأَ النَّاس وتعجيلهم ممَّا قد رَاعَاه النَّبي صلى الله عليه وسلّم أيضًا، فلو اجتمع النَّاس اليوم أيضًا في التَّغْلِيس لقُلنا به أيضًا كما في «مبسوط السَرَخْسي» في باب التيمم أَنَّه يُستحب التَغْلِيس في الفجر، والتعجيل في الظُّهْرِ إذا اجتمع النَّاس، ثُمَّ إنَّا لا ننازعك أنَّ الأمرَ كيف كان في عهدِ النَّبي صلى الله عليه وسلّم ونرجو منك أن تعذرنا في العمل بالإِسفار، فإِنَّا قد أُمِرْنا به بصريحِ النَّص «أسفروا بالفجر» وليرَ كُلُّ امرىءٍ وظيفتَه ولا يبحث مما كان أو يكون، هذا هو الصراط المستقيم فاتبعوه‏.‏ وبعد فقد نقل السخاوي عن الحافظِ ابن حجر كما في «شرح الإِحياء» أنَّه أقرَّ بكونِ مذهبِ الحنفية أَقْوَى‏.‏

والحاصل‏:‏ أنَّ العملَ قد بقي مشتركًا بيننا وبينهم فلهم أَنْ يَحمِلُوه على مسائِلهم‏.‏ ولنا‏:‏ أَنْ نحمِلَهُ على مختارنا، أمَّا القول أي «اسفروا بالفجر» فهو لنا خالصًا إِنْ شاء الله تعالى فناهيك به إمامًا في حديث عائشة رضي الله عنها‏:‏ «ما يعرفن من الغَلَس» فقوله‏:‏ «من الغَلَس» ليس مرويًا عن عائشةَ رضي الله عنها، بل هو قياسٌ مِنْ راو آخر، كما يُعْلَمُ من ابنِ ماجه، وفيه «تَعْنِي من الغَلَس»‏.‏

وأمَّا ما عند البخاري «أَنَّه كان يُصلِّي بغَلَس» بطريق العادة فعلى ما علِمت فيه أنه مروي مَتنًا وسندًا عند الدارمي وفيه كان يغلس أو كانوا يغلسون بالشك- بالمعنى- وفي حديثٍ مرفوع «التغليس في الشّتاء والإِسفار في الصيف» وتتبعتُ طرقه فوجدتُ سندَهُ ساقطًا وفي إسنادِه سيف صاحب كتاب «الفتوح» وهو ضعيف بالاتفاق، ثم وجدته في «حلية الأولياء» وليس فيه هذا؛ والله تعالى أعلم‏.‏

577- قوله‏:‏ ‏(‏كنت أَتَسحَّرُ في أهلي، ثُمَّ يكونُ سُرْعَةٌ بي أَنْ أُدْرِكَ صلاةَ الفجرِ مَعَ رَسولِ الله صلى الله عليه وسلّم ولعل هذا التَّغْلِيس كان في رمضان خاصة، وهكذا ينبغي عندنا إذا اجتمعَ النَّاس، وعليه العمل في دار العلوم بديوبند من عهد الأكابر‏.‏

باب‏:‏ مَنْ أَدْرَكَ مِنَ الفَجْرِ رَكْعَة

باب‏:‏ مَنْ أَدْرَكَ مِنَ الصَّلاةِ رَكْعَة

أخرجه أَوَّلا بتخصيص العصر، ثُمَّ بتخصيصِ الفجر، ثُمَّ أَخْرَجَهُ مطلقًا، باب مَنْ أَدْرَك من الصَّلاة رَكعة، فأَمْكَنَ أَنْ يَكُون إشارةً إلى أَنَّ الحديثَ في العصرِ والفجرِ أيضًا في حَقِّ المَسْبُوق، كالحديث المُطْلَق، وقد مرَّ تقريره‏.‏

باب‏:‏ الصَّلاةِ بَعْدَ الفَجْرِ حَتَّى تَرْتَفِعَ الشَّمْس

توجه المصنِّف رحمه الله تعالى إلى مسألةِ الأوقاتِ المكروهةِ، وَقَدْ وَقَعَ فيها انتشار كثير، ووجهُه‏:‏ أنَّ الأحاديثَ تَنهَى عن الصَّلاة في تلك الأوقات، ثُمَّ تَرِدُ أحاديث أخرى بجوازِ الصَّلاةِ فيها، وقد تَنْسَحِب بعمومِها على تلك الأوقاتِ فَيَحْدُثُ التجاذب بين العمومين، فمنهم مَنْ يَتَحرى أحاديث النَّهي على عمومِها ويخصص بها أحاديث الجواز ومنهم مَنْ يَظُنُّ أَنَّ الشريعةَ إذا وَرَدَتْ بالصَّلاة في تلك الأوقاتِ بعينها، فما لنا ألا نخصصها من تلك العموماتِ، كما في الرَّكعتين بعد العصر، فعموم قوله‏:‏ «لا صلاة بعد العصر حتى تَغْرُبَ الشمس» يُوجِبُ نفيها، وخصوصُ ثبوت هاتين الرَّكعتين يُوجِب تخصيصهما عن هذا العموم‏.‏ فهذا هو سِرُّ الخلافِ بين الأئمة رحمهم الله تعالى‏.‏

واعلم أَنَّ الأوقات المكروهة عندنا خمسة‏:‏

الطلوع، والغروب، والاستواء‏.‏ وهذه الثلاثة لا تجوز فيها الصَّلاةُ مطلقًا، لا صَلاة جنازة، ولا سجدة تلاوة إلا عصر يومه، وأمَّا بعد الفجرِ حتى تَطْلُع الشمس، وبعد العصر حتى تَغْرُبَ الشمس، فيكره فيهما التَّنفُّل، ولا بأس بأن يُصلَّى في هذين الفوائت وسجدةَ التلاوة، والصَّلاةَ على الجنازة‏.‏ وإنَّما فَرَّقنا بين حكمها لوضوحِ معنى الكَرَاهة، فإِنَّها في الثلاثة الأول لمعنى في الوقتِ وهو مقارنةُ الشيطان، فاستوى فيها الفرائض وغيرها، وأمَّا في الأخيرين فقد ظَهَرَ أَنْ لا كَرَاهة في الوقتِ، ألا تَرَى أَنَّه لو نَوَى فَرْضَ الوقتِ فيهما، أو شَغَلَهُ بالإِطالة جاز‏.‏ فالكراهةُ لحقُ الفَرْضِ لا لأَجْلِ الوقْتِ، ولو كانت للوقْتِ لَمَا جازَ تأخيرُ الفَجْرِ والعصر إلى آخر وقتها، وَلَمَا وَرَدَ النهيُ بعد ما قبلها علمنا أَنَّ الكراهةَ فيهما لمعنى في غير الوقت، وهو حقُّ الفَرْضِ ليصير الوقتُ المشغول به فلم تَظْهَر في حق سائرِ الفرائض، وما في معناها وهي الواجبات بعينها كسجدةِ التِّلاوةِ بخلافِ رَكْعَتيِ الطَّوافِ لأنَّ وجوبَها لغيرِه، وقد تَعَسَّرَ الفَرْقُ على شارحي الهداية بين سجدةِ التِّلاوة، وركعتي الطواف، فراجعه وحرره‏.‏

والحاصل‏:‏ أَنَّ الحنفيةَ قالوا بكراهةِ تلك الأوقاتِ كلِّها لأجلِ قيامِ الدَّليل‏.‏ واعترض عليه الشيخ ابن الهُمَام‏:‏ أَنَّ النَّهْيَ في هذين الوقْتَيْن أيضًا مطلقٌ كما في الثلاثةِ المذكورةِ، وتخصيصُ النَّص بالرأي لا يجوزُ ابتداءً‏.‏

أقول‏:‏ أمَّا مسألةُ التَّخْصِيص بالرأي فهي ما ذَكَرَهُ الشيخ وإنْ كان عَملُهم بخلافها، فإِنَّهم يُخصِّصُونَ الأحاديثَ في الأخلاقِ والمعاملات بالرأي بلا تساؤل؛ نعم، يتأخرون عن تَخْصِيصِ أحاديث العباداتِ، وذلك لانجلاء الوجُوهِ في الطائفة الأولى وخفائِها في الثانية، وقد صرَّح ابنُ دقيق العيد أَنَّ الوجه إذا كان جليًا جازَ التخصيصُ بالرأي بلا نَكير على أنَّه ليس تَخْصِيصًا ابتداءً، بل خَصَّصَ منه الوتْرَ، فعند الدَّارَقُطْني‏:‏ «من فاتَ عنهُ وِتْرُهُ فليصلِّها بعد الصُّبح- بالمعنى- وصَحَّحهُ العراقي في «شرح الترمذي» وهو عند أبي داود أيضًا إلا أَنَّ لفظَهُ‏:‏ «فليصَلِّها إذا ذَكَرَها»‏.‏ وعند الترمذي «فليصلها إذا أصبح»‏.‏ وهو مرسلٌ قوي الإِسناد، وعنده مرفوعًا أيضًا إلا أَنَّ فيه عبد الرحمن بن زيد بن أَسْلَم، وهو ضعيفٌ‏.‏

والحاصل‏:‏ أنَّ النَّهيَ وإنْ ورد في كلِّها إلا أنَّ الإِمامَ فَرَّقَ بين حكمها لمَّا رأى من اختلافِ شاكلة الشريعة فيها، فإِنَّها عَلَّقتِ النَّهي في هذين على الفجرِ والعصر، فدَلَّ على أنَّه ليس فيهما ما يُوجِبُ نُقْصَانَ الوقت، ثم ثَبَتَ عنه صلى الله عليه وسلّم الرَّكعتين بعد العصر أيضًا، فَدَلَّ على أَنَّ فيهما صلُوحًا وتوسعًا، بخلافِ تلك الثلاثة؛ وأمَّا الآخرون فَلَم يُفَرِّقوا بينهما وتَرَكُوها على شَاكِلةٍ واحدة‏.‏ فَنَظَرُ الحنفية دقيق‏.‏

وأمَّا مالك رحمه الله تعالى فأَسْقَطَ الاستواء مِنْ بينِ الأوقاتِ المكروهةِ، وَجَوَّزَ في الأربعةِ الفرائضَ دون النَّوافِل، ولعلَّه رَأَى أَنَّ الفَرائِضَ مِنْ إقامةِ اللّه فلا بَأْسَ باستثنائِها لقوتِها، فأَخْرَجَها عن النَّهي بخلاف النَّوافِل فإِنَّها مِنْ تِلْقَاءِ العبد‏.‏

وأمَّا الشافعي رحمه الله تعالى فوافقنا في اعتبارِ الخَمْسةِ إلا أنَّه جَوَّزَ فيها الفرائضَ، والواجبات، وذوات الأسبابِ مِنَ النَّوافِل، ولم يُفَرِّق بينهما في الحُكْمِ كمالك رحمه الله تعالى، وإنَّما فَرَّقَ في النوافل بين ذواتِ الأسبابِ وغيرِها، لأنَّ النَّوافِلَ التي أقامَ الشرعُ لها أسبابٌ ورَغَّب فيها بنفسِها بدونِ تفصيلٍ كتحية المسجد- فكأنَّها خارجة عن قضيةِ النَّهي من جهته فليتركها على حالها- جائزة في جميع الأوقات‏.‏ وأمَّا التي لا أَسْبَابَ لها مِنْ تِلْقَاءِ الشَّرع بل هي في طوع العبد إِنْ شاء فعل وإِنْ لم يَشَأ لم يَفْعَل، لا تَرْغيب فيها بخصوصِها فليمتنع عنها في تلك الأوقات‏.‏

قلتُ‏:‏ ولعلَّك عَلِمْتَ أنَّ الصَّلوات كلَّها إذا جازت في تلكَ الأوقات- المكتوباتِ، والتطوعاتِ من ذواتِ الأسباب ، خَرَجَ أَكْثَرُ الأَفْرَادِ من أحاديث النَّهي، ولم يَبْقَ تَحْتَها إلا غير ذواتِ الأسباب من النَّوافِل، فصار عمومها قليل الجَدْوَى مَعَ صحةِ الأحاديثِ فيها بل تواترها في الوقتين الأخيرين، كما قال به أبو عمرو‏.‏ فأخذناها بالنواجذ وعَمِلْنا بها مهما أمكنَ وجَعَلْنَاها أُسوة في البابِ، وسائرها مخصوصة بخلاف الخُصوم فإِنَّهم قد عَكَسوا الأمرَ وخَصَّصُوا الأحاديث العامَّة والضوابطَ الكلِّية بكل واقِعة وَرَدَت عليهم فأشعر به أيهما أولى‏؟‏ إلقاء الصَّلواتِ في أوقاتِ الشيطان أو صونُها عنها‏؟‏

وَذَهَب بعضُ السَّلَف إلى جواز الصَّلاةِ بعد العصر والفجر، وحملوا النَّهيَ على سَدِّ الذرائعِ أي لِئَلا تَقَع صلواتُهم في عين الطُّلُوع والغروب، فالأوقاتُ المكروهة عندَهُم ثلاثة، والنَّهيُ عن هاتين الصَّلاتين ليس لكونِهما مِنَ الأوقاتِ المكروهة بل صِيانَةً للصَّلواتِ عن الوقوع في عينيهما، وهو ظاهر قوله صلى الله عليه وسلّم «لا يتحرَّى أحدكم فيصلِّي عند طلوعِ الشمس وعند غروبها»‏.‏ فالنُّطقُ وإِنْ كان بعد الطُّلوع وبعد الغروب إلا أَنَّ المحط هو عين الطُّلوع والغروب، وأنت تَعْلَم أَنَّه لم يَبْقَ حينئذٍ تحت أحاديث النَّهي عن هاتين الصَّلاتين فَرْد، وبقيت الأحاديث بلا مصداق‏.‏

582- قوله‏:‏ ‏(‏لا تَحَرَّوْا بصلاتِكُم طلوعَ الشمسِ ولا غُروبَها‏)‏ قال الشافعية رحمهم الله تعالى‏:‏ إنه لا دَخْل لتحري العبد في الفرائضِ وكذا في ذواتِ الأسبابِ مِنَ النَّوافِل فإِنَّها ليست من تَحَرِّيه، وإنما هي مِنْ جِهَةِ الله تعالى، فلم تَبْقَ تحتَهُ إلا غير ذواتِ الأسباب، وهي التي فيها دَخْلٌ لتَحَرِّيهِ، وقد مرَّ أنَّ ظاهرَهُ أَوْفَقُ مِمَّا ذهب إليه بعض السلف‏.‏

قلتُ‏:‏ إذا صَدَعَ الشرعُ بكونِ الأوقاتِ الثلاثةِ أوقاتًا للشيطانِ، وبيَّنَ معنى الكراهة لكلِّ ذي عينينِ، فالجمودُ على ظاهرِ لفظِ التَّحرِّي لا نَدْرِي أهو مِنْ لَفْظِ النبي صلى الله عليه وسلّم أَوْ مِنْ جِهَةِ الرَّاوي جمود جامد، ثُمَّ إنَّك إنْ كان عندَكَ ذوقٌ مِنَ العربية فافهم أَنَّ قوله‏:‏ «لا تَحَرَّوْا» ليس مدارًا للحُكْمِ بل تقبيحٌ عليه أيُّ تقبيح، فإِنَّه إذا تهاونَ في أَمْرِ الصَّلاة وفَعَلَ فِعْلَ المُنافِقِ ولم يحافظها على ما أَمَرَه الله، فصلاها متى أَرَادَ فكأنَّه أَلْزَمَهُ أنَّه يتحرَّى بذلك طلوع الشمس، فتهاونُه وقِلةُ مبالاتِه أُقيم مَقَامَ التَحرِّي على حد قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مّنَ الْغَمَامِ‏}‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 210‏)‏ فكأَنَّ تأخرهم عن تصديق الرُّسل وتأخيرهم فيه أُقيمَ مَقَام نَظَرِهم إلى إتيان اللّه في ظُلل من الغمام، فإِذن هو لمزيدِ التقبيح، وراجع الطيبي للفَرْقِ بين قوله‏:‏ «لا تَحَرَّوْا بصلاتكم» وقوله‏:‏ «لا يَتَحَرَّى أحدكم فيصلي»‏.‏‏.‏‏.‏ الخ‏.‏

- قوله‏:‏ ‏(‏وقبل أن تغرب‏)‏ وقد مرَّ مني أنَّ المرادَ منه قبل الاصفرار وهو الغروب الشرعي، والصَّلاة بعده مكروهة، فلا يَدْخُل في سياقِ التعليم، وأمر القرآن أرفع منه، فلا يُحْمَل نَظْمُه إلا على الأحب فالأحب في نظر الشارع، ولذا أقول‏:‏ إنَّ المرادَ من قوله‏:‏ ‏{‏مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْءانِ‏}‏ ‏(‏المزمل‏:‏ 20‏)‏ ليس هو الآية، لأنَّه يُوجِب أَن تدخل الكراهة في نَظْمِ النَّص‏.‏

584- قوله‏:‏ ‏(‏نهى عن بيعتين‏)‏ لمَّا ذَكَرَ الراوي تثنية واحدة، وهي النَّهي عن صلاتين أَرَادَ أَنْ يَذْكُر معهما تثنية أُخْرَى، وهي النَّهي عن بيعتين وإِنْ كانت من باب آخر‏.‏

باب‏:‏ لا يَتَحَرَّى الصَّلاةَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْس

ولعلَّ البخاري لا يريد تفصيلا بين التَحري وعدَمِه، وإنَّما كان عندَهُ لفظٌ في الحديث، فأحب أَنْ يُترجِم به كما هو، أو يُقال‏:‏ إنَّه لم يَسْنَح له فصل في الجانبين، وكان في اللفظِ صَلُوحٌ لهما فأَبْقَاهُ على حالِه، فَخَرَجَ من عُهدَةِ بتِّ القولِ في مَوضِع كَثُرَ فيه الاختلاف، ثُمَّ أقولُ‏:‏ إِنه يُستفاد مِنْ تَراجِمه إطلاقُ النَّهي في الفجر فلم يفصل، ولعلَّهُ لا يُجيز سُنَّة الفجر بعد رَكعَتَيْهِ‏.‏

وأمَّا حديث قيس بن فَهْد فليسَ على شرطه، فَتَرَكَهُ ولم يَنْظُر إليه، وهو مرسلٌ كما عند الترمذي، ووصَلَهُ بعضُهم أيضًا‏.‏ وأمَّا العصر فقد أَلانَ الكلامَ فيها، وأرَادَ أَنْ يفصل لما عنده حديث في الركعتين بعد العصر، وعن عمر رضي الله عنه أنَّه كانَ يُعَزِّرُ مَنْ صَلاهما، فألان الكلامَ لهذا التعارض وَوَسَّع‏.‏

587- قوله‏:‏ ‏(‏ولقد نَهَى عنهما يعني الرَّكعَتَين بعد العصر‏)‏ وعلى الهامش «يصليها» بالضمير المفرد وهكذا في أكثر المواضع لا يَزَال فيه تبادل النسختين في الهامشِ والصلب، فدار النَّظر في أَنَّ الحديثَ عنده في خُصوصِ هاتين الرَّكْعَتين أو الحديث عنده، هو الحديث العام فقط، ثُمَّ يذكر النهي عنهما تمسكًا بالعموم‏.‏

قلتُ‏:‏ إِنْ كانَ عندَه حديثٌ مستقل في النَّهْي عن هاتين الرَّكعتين فهو نصٌّ لنا في البابِ، وتكون المسألة في غايةِ القُوَّةِ وإن أَدْخَلهما في عموم قوله‏:‏ «لا صلاةَ بعد العصر‏.‏‏.‏‏.‏ الخ» فليس نصًا فيه، بل يكونُ ظاهرًا ولا تَبْقَى فيه تلك القوة، وكيفما كان فالحديثُ حجةٌ لنا لأنَّ الظَّاهِرَ وإن لم يَكُن كالنَّص إلا أَنَّه لا ينحَطُّ عن كَونهِ على ما أخرجَهُ البخاري يَدلُّ على كونِه حُجَّةً نصًا فيه‏.‏ وفيه‏:‏ «سمعتُك تَنْهَى عن هاتين الرَّكعتين هناك تُصلِّيهما» مكان الضمير فليجري فيه اختلاف أَفْرادِ الضميرِ وتثنيته، وهذا صريحٌ في بَعْضِ النَّهي فيه مستقلا، وإذن لا يكونُ مِنْ بابِ التمسكِ بالعموم‏.‏

باب‏:‏ مَنْ لَمْ يَكْرَهِ الصَّلاةَ إِلا بَعْدَ العَصْرِ وَالفَجْر

واعلم أَنَّ المصنِّف رحمه الله تعالى لم يُعد الاستواء من الأوقات المكروهة، وكأَنَّه لم يَصُح فيه حديث على شرطِهِ فتَرْجَمَ على نفيه، فبقيت مِنَ الخَمْسِ أربع، ثُمَّ لفها في اثنين بحيث أَخَذَ الوقت بعد الفجر أي عين الطُّلوعِ فاستتبع الطلوع أيضًا، وكذلك فَعَلَ في العصر، فأخذ بعد العَصْرِ إلى عينِ الغروب، فانْدَرَج عين الطلوع والغروب تحت الوقتين بعد الفجر وبعد العصر، وحينئذ ظَهَر معنى الحصر في الترجمة أي قوله‏:‏ «إلا بعد العصر والفجر» ولا يدري أَنَّه أَرَادَ بذلك الصَّدْعَ بموافقه مالكٍ رحمه الله تعالى أو الإِغماض عنه فقط، لفقدان الدَّليل على شَرْطِهِ ثم لا يَخْفَى عليك أَنَّ الاستواء وإِنْ أَغْمَضَ عنه المصنِّف رحمه الله تعالى إلا أَنَّه صَحَّتْ فيه عدة أحاديث عند مسلم وابن ماجه وغيرهما‏.‏

باب‏:‏ مَا يُصَلَّى بَعْدَ العَصْرِ مِنَ الفَوَائِتِ وَنَحْوِهَا

ولعلَّ المصنِّف رحمه الله تعالى وَافَقَ في الفَجْرِ مذهبَ الحنفية، فَتَرَكَ النهي فيه على إطلاقه، ولم يفصح فيه بتخصيص، فَدَلَّ على أَنَّ مَنْ فاتته سُنَّة الفَجرِ يَقْضِيها بعد طلوع الشمس، ولا يُصلِّيها بعد رَكْعَتَي الفجر‏.‏ وأما حديثُ قيس بن فَهد فقد عَلِمْتَ أَنَّه ليس على شَرْطِه فلم يَنْظُر إليه، ولعلَّهُ يَضَع ترجمة التَّحَرِّي في الفجر إشارةً إلى هذا، وَوَضع في العصر ثلاثَ تراجم تُشِيرُ إلى التَّخْصِيص فيه، مَعَ أَنَّ شاكِلَةَ الحديث واحِدة فيهما، وذلك لعَدَم التَّفْصِيل عندَهُ في الفجر بخلافِ العصر‏.‏

ثُمَّ إنَّ الشَّارِحَيْنِ الحافِظَيْن اختلفا في أنَّه ماذا أَرَادَ بزيادة «نحوها»‏؟‏ فَحَمَلَها كُلٌّ منهما على مسائِله، فَأَرَادَ بها الحافظُ ابنُ حجر‏:‏ غير ذوات الأسباب مِنَ النَّوافِلِ، والحافظ البدر‏:‏ الواجبات لعينها ونحوها من الصَّلواتِ التي جازت في هذا الوقتِ عنده‏.‏

قلتُ‏:‏ لمَّا ثَبَتَت الرَّكعتان بعد العصر عند المصنِّف رحمه الله تعالى أَضَافَ في ترجمته نحوها، وأَجْمَلَ في الكلامِ للتردُّدِ عنده، ليَنظُر فيها العلماء، فهذا هو غَرَضُ المصنِّف رحمه الله تعالى عندي، أَمَّا إنَّه أَرَادَ بها ما اخْتَارَهُ ابنُ حجر أو ما ذَهَبَ إليه الحافظُ العيني، فَلَعَلَّهُ بمَعْزِلٍ عن نَظَرِهِ، لأنَّه لم يَرِد فيه الجزم بأحدٍ من الطرفين‏.‏ وإنَّما أَبْهَم إحالة على النَّاظرين‏.‏

590- قوله‏:‏ ‏(‏وكان يُصَلِّي كثيرًا من صَلاتِهِ قاعدًا تَعْني الرَّكعتين بعد العصر‏)‏ وقد ذَكَرَهُ الراوي في غيرِ موضعِهِ، فإِنَّه لا تَعلُّق له بقوله‏:‏ «قاعدًا» وإنَّما هو تفسيرٌ للضمير في قوله‏:‏ «ما تركهما حتى لقي اللّه» فينبغي أَنْ يَذكُرَه مقدمًا لئلا يَخْتَلَّ الترتيب والمعنى، فاعلمه‏.‏

بقي الكلامُ في هاتين الرَّكعتين، ففيهما اضطراب من وجوه، فعندَ الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنه قال‏:‏ «إنَّما صلى رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم الرَّكعتين بعد العصر لأنَّه أتاه مالٌ فشَغَلَهُ عن الرَّكعتين بعد الظُّهْر فصلاهُما بعد العصر ثم لم يعد لهما» قال الترمذي‏:‏ وحديث ابنِ عباس رضي الله عنه أصح، حيث قال‏:‏ «ثم لم يَعُدْ لهُما» اه‏.‏

وهذا صريحٌ في أَنَّه صَلاهُما مرَّةً واحدة فقط‏.‏ ولم يداوم عليهما، وإنَّما كان حديثُ ابن عباس رضي الله عنه أَصَحّ من حديثِ عائشة رضي الله عنها لِمَا يأتي فيه من الاضطرَاب‏.‏ قال الحافظُ‏:‏ وفيه جَرِير عن عَطَاء، وسماعهُ منه بعد الاختلاط، وحديثُ عائشة رضي الله عنها هذا، يَدُلُّ على المُدَاوَمَةِ عليهما، حيث قالت‏:‏ والذي ذهب به ما تَرَكهما حتى لقي اللّه‏.‏

ثُمَّ عند أبي داود عن عائشةَ رضي الله عنها نفسها‏:‏ أَنَّها رَدَّتِ الأَمرَ إلى أُمِّ سَلَمَة رضي الله عنها حين استَخْبَرُوها عنهما، كأَنَّه لم يَكُن عندَها علمٌ بهما‏.‏ وعند الطحاوي‏:‏ أَنَّ معاويةَ رضي الله عنه أَرْسَلَ إلى عائشةَ رضي الله عنها يسألها عن السَّجْدَتَيْنِ بعد العصر، فقالت‏:‏ ليس عندي صلاهما، ولكن أم سلمة حَدَّثَتني أَنَّه صَلاهُما عندها‏.‏‏.‏‏.‏ الخ ولو قَطَعنا النَّظر عن هذا الاضطراب فهي بنَفْسِها تقول‏:‏ إِنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلّم كان يُصلِّي بعد العصر ويَنْهَى عنها، ويُواصِل ويَنْهَى عن الوِصَال، فحديثُ عائشة رضي الله عنها ليس دليلا على جواز الصَّلاة بعد العصر أصلا أو هو دليلٌ لنا لصراحتها أَنَّها كانت من خصائص النبي صلى الله عليه وسلّم كالوِصَال‏.‏

أَمَّا إِحْداثُ مرتبة أُخْرَى فيه، والادعاء بجواز نفس الصَّلاة، وإرجاع الخُصوصية إلى المُداوَمَة، فتجريد منطقي لا يُعْتَبَرُ في كلام الشارع، ثُمَّ قد عَلِمْتَ أَنَّ أَصْلَ الخبر كان عند أُمِّ سلمة رضي الله عنها، ولذا أَدَّت إليها عائشة رضي الله عنها حين سُئِلت عنها فهي التي تَرْوي عن النَّبي صلى الله عليه وسلّم بإِسنادٍ فيه زيد بن هارون أنا حماد بن سَلَمَة عن الأَزرق بن قيس عن أُمَّ سَلَمَة رضي الله عنها قالت‏:‏ يا رسولَ الله أفنقْضِيَهما إذا فاتتا‏؟‏ قال‏:‏ «لا»‏.‏ فما ترى فيها الآن‏؟‏ وغايته ما اعتذروا عنه أَنَّ يزيد بن هارون عن حَمَّاد فيه شيء‏.‏

قلتُ‏:‏ وقد تتبعتُ له مسلمًا فوجدتُ أنَّه أَخْرَج عِدَّةَ أحاديث بها الإِسناد‏.‏

ومرَّ عليه السُّيوطي في «الخصائص الكبرى» وصححه، وهو في «مسند أحمد» أيضًا، فإِذن هو في أَعْلَى مرتبةِ الحَسَن لذاته، وعند الطحاوي بأسانيد عديدة‏:‏ أَنَّ عمر كان يُعَزِّرُ مَنْ كان يُصلِّي بعد العصر وذلك بمحضرٍ من الصحابة رضي الله عنهم، ولم يُنكِرْ عليه أحدٌ أيضًا، وعند الطحاوي عنه‏:‏ أنَّه طَافَ قَبْلَ طُلُوعِ الشمسِ، ولم يُصَلِّي رَكعتي الطَّواف حتى بَلَغَ ذو طَوَى‏.‏ أَخْرَجَهُ موصولا، والبخاري معلقًا، وما ذلك إلا لخُروج وَقْتِ الكراهة‏.‏ وقد صرَّح الترمذي بعبارةٍ كاد أَنْ تُومىء إلى إجماعهم على ذلك‏.‏ وهذا نصه‏:‏ والذي اجتمعَ عليه أَكْثرُ أهلِ العلم على كراهية الصَّلاةِ بعد العصر حتى تَغْرُبَ الشمس، وبعد الصُّبْح حتى تَطْلُع الشمس، إلا ما استُثْنِيَ من ذلك مثل‏:‏ الصَّلاةُ بمكة بعد العصر حتى تَغْرُبَ الشمس، وبعد الصُّبْح حتى تطلع الشمس يعد الطَّواف‏.‏ اه‏.‏

كيف لا وقد تواتَرت الأحاديث في النَّهي عن الصَّلاةِ في هذين الوقْتَيْن أَمَّا ما وَرَدَ فيه من الاستثنَاءِ فهو ضَعيفٌ عندَهُم وفي كتاب «النَّاسخ والمنسوخ» عن الأَثْرَمِ أَنَّه كان يقول‏:‏ حديثُ عائشة رضي الله عنها في مُدَاوَمَةِ الرَّكعتين بعد العصر معلولٌ‏.‏ وَنَقَل ابنُ الجوزي عن ابنِ عقيلٍ‏:‏ أَنَّ النَّهيَ عن الصَّلاةِ بعدَ العصرِ والفجرِ لِئَلا يُلْزَم الدُّخول في عين الطُّلُوع والغروب، فالممنوعُ هو الوصل، كما هو مذهبُ بعضِ السَّلَف، ومنه ظَهَر وَجْهُ الجمع بين النَّهي عن الوصالين، قال القاضي ابن العربي‏:‏ إِنَّ العِلَّة وإِنْ أَوْجَدَت الحُكْم ابتداءً لكن الحكم يَدُورُ على لَفْظِ الحديث انتهاءً‏.‏ وقال علماءُ الأصول‏:‏ إِنَّ الحِكْمَةَ لا يجب طَرْدُها وعَكْسُها والذي يَجِبُ فيه ذلك هو العِلَّةُ الفقهية، والنَّبي صلى الله عليه وسلّم لمَّا كان مأمونًا عن هذا التَّخْلِيط، ساغ له أَنْ يُصلِّيهما بعد العصر‏.‏

وأَخْرَجَ السُيوطي رحمه الله تعالى‏:‏ أنَّ أبا أيوب الأنصاري كان يُصلِّي بعد العصر في زمنِ عمر رضي الله عنه، فرآه عمر وهَدَّدَهُ على عادتِه في هاتين الرَّكعتين، فقال له أبو أيوب رضي الله عنه‏:‏ لا أَتْرُك شيئًا كنت أَفْعَلُه في زمن النَّبي صلى الله عليه وسلّم فقال له عمر رضي الله عنه‏:‏ مالي ولك‏؟‏ إنَّما أَنْهَى عنها سدًّا للذرائع‏.‏ وهذا يَدُلُّ أَنَّ مذهَبَهُ فيهما كمذهبِ بعضِ السَّلَفِ، وإذا عَلِمْتَ حال هاتين الرَّكعتين، فانصف من نَفْسِك أَنَّ العَمَل بهمَا أَوْلَى أو بالنَّهي الذي تواتر عنِ النَّبي صلى الله عليه وسلّم ولِمثْل هذا تركهما الدارمي، وعَمِلَ بقول عُمَر رضي الله عنه، وإليه مال أكْثَر السَّلَف‏.‏

وأعلى ما في الباب عندي ما عن الليثِ بن سعد في «الطبقات» ونَقَلَهُ العيني‏:‏ أَنه حَضَرَ بمكةَ في سَنَةٍ- أراه ثلاثة وثمانين- في موسمِ الحج، وانكَسَفَتْ الشمس بعد العصر، فلم يُصلوا صلاة الكُسوفِ مع كَونِها من ذواتِ الأسباب، فسألوا‏:‏ أَنَّهم لِمَ لا يُصَلُّون صلاة الكُسُوفِ فقالوا‏:‏ لكَرَاهةِ الوقتِ، وكان ذلك بمَحْضَر أُلوفٍ من التابعين رحمهم الله تعالى والصحابةِ رِضْوَان الله تعالى عليهم أجمعين‏.‏

وليث هذا حنفي كما صَرَّح به ابن خَلِّكان في كتاب «الخَراج» وقال الشافعي رحمه الله تعالى في حقه‏:‏ إنه ليس عندنا بأدون من مالك رحمه الله تعالى إلا أَنَّ أصحابَهُ ضَيَّعُوهُ‏.‏ وهذا الليث يَرْوِي عن أبي يوسف رحمه الله تعالى في باب قِراءَةِ الفاتحة خلف الإِمام عند الطحاوي رحمه الله تعالى، وقد نَقَلْنَا صورةَ الإِسنادِ فيما سَلَف‏.‏ ثُمَّ لا يَخْفَى عليك أَنَّ تَقلِيدَ مثل الليثِ كتقليدِ المتقدمينَ‏.‏ وفي مُسْنَدِ الدارمي‏:‏ أَنَّه لمَّا حَدَّثَهُم حديث عائشة رضي الله عنها سألوه عنه، قال‏:‏ وإنَّما عَمَلي على ما عَمِلَ به عُمر‏.‏

وإنَّما كان يَعْمَل بهما ابنُ الزبير رضي الله عنه تَعَلَّما مِنْ عائشة رضي الله عنها كما هو عند المصنِّف رحمه الله تعالى في الحجِّ قال‏:‏ رأيتُ ابنَ الزبير رضي الله عنه يُصَلِّي رَكعتين بعد العصر، ويُخْبِر أَنَّ عائشةَ رضي الله عنها حَدَّثَتْهُ أَنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلّم لم يَدْخُل في بيتها إلا صلاهما‏.‏ قال الحافظُ رحمه الله تعالى‏:‏ وكان ابنُ الزبيرِ فَهِمَ منه ما فَهِمَتْهُ عائشة رضي الله عنها، أي أَنَّ النَّهي عن الصَّلاةِ بعد العصر، مُخْتَصٌّ بِمَنْ قَصَدَ الصَّلاة عند غروبِ الشمس‏.‏

ثُمَّ يَظْهَر مِنَ الرِّوايات أَنَّهما رَكْعَتَانِ فاتتاه بعد الظُّهْرِ فقضَاهُما بعد العصر، ومِنْ سُنَن الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام أَنَّهم إذا فَعَلوا عِبَادةً مرةً داوموا عليها، وكثيرٌ من عبادتِنا من شَعَائِر عباد اللَّه، كما مرَّ عن الطحاوي رحمه الله تعالى‏.‏

باب‏:‏ التَّبْكِيرِ بِالصَّلاةِ فِي يَوْمِ غَيم

واعلم أَنَّ التأخيرَ مستحبٌ عندنا في جميع الصَّلواتِ غير المغرب مطلقًا، والعصر والعشاء يوم غيمٍ فقط‏.‏ وعند الشافعية رحمهم الله تعالى‏:‏ يُستحبُ التعجيل في جميعها غير العشاء‏.‏

باب‏:‏ الأَذَانِ بَعْدَ ذَهَابِ الوَقْت

وفيه حديث ليلةِ التعريسِ، والمسألةُ فيه عندنا أَنَّ الفَوائِتَ إذا اجتمعت فإِنَّه يُؤذِّنُ فقط ويقيمُ لسائِرها، ثم إِنَّ سُنِّيةَ الأذان لا لفائتة مَحْمُولٌ على ما إذا قضاها في البيت، أَمَّا إذا قَضَى في المسجد فلا يُؤذَّنُ لها‏.‏

ثم إنَّ واقعةَ ليلَةِ التعريس واحدة عند القفول من خَيْبَر ولا بُدَّ‏.‏ ومنهم مَنْ زَعَم أَنَّها متعددة نظرًا إلى تَغَايُرِ الألفاظِ وتَصَرُّفات الرُّواة وهو بعيدٌ عندي‏.‏

595- قوله‏:‏ ‏(‏إنَّ الله قبضَ أرواحكم‏)‏ وقبضُ الروحِ عند العامة‏:‏ أَنْ يَذْهب الله بها، وحقيقته ما نبَّه عليه السُّهَيْلِي، وحاصله‏:‏ أَنَّه قريبٌ مِنَ الغَطِّ والضَّغْطِ كَضَمِّ الأصابع على شيءٍ، وجعله صغيرًا بعد ما كان كبيرًا، مثلا‏:‏ كأن عندك قُطْن مَنْفُوش فقبضته وضممت عليه أصابعك، فجعلته صغيرًا في يدك بهذا القبض بعدما كان منتفخًا في الخارج، وقبض الله سبحانه الأرواح عبارة عن تعطيلها عن بعض الأفعال، بعدما كانت ساريةً في الجسم تحركها، فإذا قُبِضَت فقد تَعَطَّلَت عن بعض أفعالِها كما تَرى في النوم‏.‏ وترجمته في الهندية- بهينجنا- فالتوفي والإِرسال في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اللَّهُ يَتَوَفَّى الاْنفُسَ حِينَ مِوْتِهَا‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏ الخ، عبارة عن تعطيلِها عن بَعضِ الأفعال ثم ردها إليها وإذا أراد الله أَنْ يتوفاها توفى الميت، فَيَقْبُضُ الأرواح قباضًا لا إرسالَ بعدها، فتتعطَّل عمَّا كانت تُشغَل فيه بالكلية، وهو بإِخراجِها عن أجسادها، لأن التَّعطُّلَ بالكلية لا يكون إلا بذلك، فإِنها ما دامت في الأجسادِ لا تزال تْشغَل ببعض تدبيرها، فإِذا نُزعت عنها وأُخرجت فقد تعطَّلت عن تدبيرها مطلقًا، ولم يَبْقَ لها معها تعلُّق التدبير أصلا‏.‏ فهذا أيضًا نوعٌ من القبض، وهو القبض التام‏.‏

وحينئذٍ انكشف معنى قوله صلى الله عليه وسلّم عند أبي داود‏:‏ «ما من أحدٍ يُسلِّم عليَّ، إلا ردَّ اللَّهُ عليَّ رُوحي، فأُسَلِّمُ عليه»- بالمعنى- أي كان النبيُّ صلى الله عليه وسلّم مُعَطَّلا عن ذلك الجانب، مشغولا بجناب القُدُس، فإِذا سُلِّمَ عليه يَرُدُّ الله عليه روحه ويُشْغِلُه بذلك الجانب، حتى يَرُّدَّ عليه السلام، وليس معناه الإِحياء والإِماتة، وهو ما أرادَهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلّم في عذر بلال عن نومه‏:‏ «إن اللّه قَبَضَ أرواحَكم حين شاء، وردَّها حين شاء»‏.‏ ومعلومٌ أن بلالا لم يَتَوَفَّ كالميت، ولم تَخْرُج رُوحُه من جسده، ليكون الردُّ بمعنى إعادتها فيه، بل بمعنى أنها كانت تعطَّلت عن أفعالِ اليَقْظان، فلم تقدِر أن تُوقِظَ أحدًا وتحفظَ ما يحفظه ولكن اللّه سبحانه إذا ردَّها عليه، شُغِلت فيما تُشغل فيه أرواح الناس في اليقظة، وقَدَرَت على ما كانت تَقدِرُ عليه من قبل‏.‏ فهذا هو حقيقته إن شاء اللّه تعالى، فذقه واحفطه في وعائك، وأَشْرِكْنَا في دعائك‏.‏

أما الفرقُ بين الروح والنفس، فألطف ما وجدته في كلام السُّهيلي، وَنَبْذَة منه‏:‏ أنه شيءٌ واحدٌ تغايرت أسماؤه بتغايُرِ صفاته، فيُسمَّى روحًا باعتبار تجرُّدِه، ويسمَّى نفسًا باعتبار تعلُّقِه بالبدن، واكتسابه المَلَكات الردية كالماء، فإنَّه ماءٌ ما دام في الخارج، وإذا تشرَّبته الشجرةُ، فتغيَّرت أوصافه، يُسمَّى باسمٍ آخر، حتى لا تبقى له أحكام الماء، ولا يجوز به الوضوء‏.‏

595- قوله‏:‏ ‏(‏فلمَّا ارتفعت الشمسُ وابْيَاضَّتْ‏)‏، ولعلَّك تدري وتَفْهَمُ أنه لماذا ارتقب الارتفاع والابيضاض، ولم يُصلِّها إذا ذكرها، وما ذاك إلا أنه قد تواتر النهيُّ عن الصلاة حتى ترتفعَ الشمس‏.‏ فهذا قولُهُ، وذاك فعلُهُ، فانظرهما، وفَكِّر في لفظ الابيضاض ماذا يُفيد‏؟‏ وأَصْرَحُ منه ما عند الدَّارَقُطْنِي‏:‏ «حتى إذا أَمْكَنَنَا الصلاة»‏.‏ ثم ارجع إليه البصر كرتين لا يُفيدكَ إلا أنهم قبل الارتفاع لم يكونوا في مُكْنَة الصلاة، فلم يُصَلُّوها، فإن احْتَالُوا بأنه كان هناك واديًا حَضَرَ فيها الشيطان، فتنحَّوا عنها لذلك، فقل لهم‏:‏ إنه لو كان هذا هو المؤثِّر، لكان حقّ العبارة أن تكون هكذا‏:‏ «فلما زِلْنَا عن مكان الشيطان، وبعُدَ الشيطانُ عنا»، لتكون إشارة إلى وجه التنحِّي‏.‏ ولا تجده ولا مثله في لفظٍ‏.‏

ثم هل المسألةُ عندك أن لا يُصَلِّي في كل مكان فاتتك الصلاة، أو سوَّيْتَها لجوابنا فقط‏.‏ ثم مالك تَتَبَاعَدُ عن مكان الشيطان وتتقارن بزمانه، فإنه كنتَ تريدُ أن تقع عبادتك في حيَّز مرضاة الله، فاجتنب عن مكانِهِ وزمانِهِ جميعًا‏.‏ ولا تدع الشيطانَ يفرحُ من عبادتك حين تَسْجُد وهو قائم بين يديك، ف‏:‏ ‏{‏إِنَّ الشَّيْطَنَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً‏}‏ ‏(‏فاطر‏:‏ 6‏)‏ ولعلّك تَفْهَمُ الآنَ أنه كان يتحرَّى أن يَخْرُج وقت المكروه، فلذا إذا ارتفعت الشمسُ وزُحزحت عنها الصُّفْرة، وجد مُكْنَة للصلاة فصلاها‏.‏

وفي كتاب «الآثار» لمحمد رحمه الله تعالى‏:‏ وليس في غيره أنه جهر فيها أيضًا، وهو المختار عندي‏.‏ هذا ما سمعت في الفجر‏.‏ فإن شئتَ أن تَعْلَمَ حال العصر وأنه هل يُصلِّيها إذا ذكرها ولو عند الاصفرار، فراجع «الصحيح» لمسلم حتى يتبينَ لك شرحُ قوله‏:‏ «لا صلاةَ بعد الفجر حتى تَطْلُع الشمس، ولا صلاةَ بعد العصر حتى تَغْرُبَ الشمس» بجزئيه من قِبَلِ صاحب الشرع‏.‏

فعند مسلم في باب الصلاة الوسطى صلاة العَصْر، عن عبد الله قال‏:‏ «حَبَسَ المشركونَ رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن صلاةِ العصر حتى احمرَّت الشمس أو اصفرَّت»‏.‏ وعند البخاري في باب من صلَّى بالناس جماعة بعد ذهاب الوقت‏:‏ «حتى كادت الشمس تغرُب»‏.‏ ومع هذا لم يصلِّها النبيُّ صلى الله عليه وسلّم إلا بعد ما غَرَبَت الشمس، كما في البخاري في هذا الحديث‏.‏ والاعتذار عنه بأنه لم يكن على وضوءٍ، أو انتظر أن يجتمعَ الناس، أو لم تَنْزِل صلاة الخوف بَعْدُ، فكلها لا يَعْلَقُ بالقلب‏.‏ وبالجملة‏:‏ إن الأحاديث في الأوقات المكروهة قد اشتهرت، وفيهما عندنا بيان من قِبَل صاحب الشرع أيضًا‏.‏ أمَّا في الفجر، فما رُوِيَ عنه في ليلة التعريس‏.‏ وأمَّا في صلاة العصر، فكما في غزوة الأحزاب، وأمسك النبيُّ صلى الله عليه وسلّم فيها عن الصلاة حتى خرج الوقت المكروه، وحسبك قُدْوة بهما‏.‏

أمَّا صحة عصر اليوم عند الاحمرار عندنا، فقد مرَّ تحقيقه وأنه هل يُؤْمَرُ بها إذ ذاك أو يؤخِّرها‏.‏ وكيفما كان، ولكنه لا يجب عليه أن يصلِّيها إذا ذكرها‏.‏

باب‏:‏ مَنْ صَلَّى بِالنَّاسِ جَمَاعَةً بَعْدَ ذَهَابِ الوَقْت

ولم أر في فِقْهِ الحنفية أنهم قالوا بوجوب الجماعة على من قضاها بعد الوقت‏.‏

596- قوله‏:‏ ‏(‏يوم الخَنْدَق‏)‏، وهي في السنة الرابعة أو الخامسة‏.‏ وقد كان الخَنْدَق حُفِرَ على رأي سلمان الفارسي، فإنه كان من دَأْب العجم‏.‏

596- قوله‏:‏ ‏(‏ما كِدْتُ‏)‏‏.‏ واخْتُلِفَ في «كاد» في الإيجاب والنفي، والمختار أن شاكلتَه شاكلةُ سائر الأفعال، وحاصلُ قول عمر رضي الله عنه‏:‏ أنه صلَّى العصر مُنْفَرِدَا بكُلْفَةٍ‏.‏ ثم في عدد قضاءِ صلوات النبيِّ صلى الله عليه وسلّم يوم الخَنْدَق اختلافٌ، فعند «الصحيحين»‏:‏ أنه لم تَفُتْهُ إلا العصر‏.‏ وعند الطحاويِّ‏:‏ أنه فاتته الظُّهْر والعصر والمغرب، وفي إسناده الإمام الشافعيُّ رحمه الله تعالى، وصحَّحه ابن سيد الناس‏.‏ فمن اقتصر على حديث «الصحيحين»، قال‏:‏ إنه وَهمٌ‏.‏ ومن سَلَكَ طريق الجمعِ بينها، قال كما قال به ابن سيد الناس‏:‏ إن واقعة الخَنْدَق بقيت أيامًا، فكان هذا في بعض الأيامِ، وهذا في بعض‏.‏ ثم في عَدِّ المغرب من الفوائت مُسَامحةٌ، فإنها لم تَفُتْهُ، ولكنها أُخِّرت عن وقتها شيئًا، فعبَّره عن الفوات‏.‏ والحافظ ابن سيد الناس من شيوخ مشايخ الحافظ ابن حَجَر‏.‏

باب‏:‏ مَنْ نَسِيَ صَلاةً فَليُصَلِّ إِذَا ذَكَرَهَا، وَلا يُعِيدُ إِلا تِلكَ الصَّلاةَ

ر

يمكن أن يكونَ إشارةً إلى اختيار مذهب الشافعية‏.‏ ويمكن أن يكونَ قولهُ‏:‏ «إذا ذكرها» تَبَعًا للحديث فقط، فيجري الكلامُ فيه كما في الحديث‏.‏ وفَهِمَ بحر العلوم في «الأركان الأربعة»‏:‏ أن مبنى الخلاف بيننا وبين الشافعية لفظة‏:‏ «إذا» فهي على ملحظِ الحنفية‏:‏ شرطية، وعلى نَظَرِ الشافعية رحمهم الله تعالى‏:‏ ظرفية‏.‏ ولعلَّه أخذه مما ذُكِرَ في الكُتُب من الخلاف بين الإمام وصاحبيه في مسألة‏:‏ إذا لم أُطَلِّقْكِ، وإن لم أُطَلِّقْكِ، حيث تطلُق في الصورة الأولى كما سكت، وفي الثانية‏:‏ لا تُطْلَق حتى يموت أحدهما‏.‏ وهذا عندهما‏.‏ أما عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى‏:‏ «فإذا» فيه «كإِن»‏.‏

قالوا‏:‏ إن مبنى الخلاف فيه‏:‏ أن «إذا» عند الإِمام‏:‏ شرطية، وعند صاحبيه‏:‏ ظرفية‏.‏ قلت‏:‏ والفرق بين إذا الشرطية والظرفية أن الأولى للوقت المُبْهَم، والثانية للوقت المُعَيَّن‏.‏ والعاملُ في الظرفية فعل الجزاء‏.‏ واختُلف في الشرطية، فقيل‏:‏ فعل الشرط، وقيل‏:‏ كالظرفية‏.‏ ومنه ظهر وجهُ الفرقِ بين المسألتين عند الصاحبين‏.‏ ومبنى الخلاف عندي هو‏:‏ اختلاف التفقُّه فقط‏.‏ وحاصلُ الحديث عندي‏:‏ إيجابُ القضاء فقط‏.‏

ولا تعرُّضَ فيه إلى مسألة الأوقات المكروهة لنجعله هادمًا أو ناسخًا لها، فمسألة الأوقات قد فَرَغَ منها الشرع في موضعها، وحرَّرها وكرَّرها حتى صَدَعَ بالنهيِّ عن الصّلاة في تلك الأوقات، ثم ذكر مسألة إيجاب القضاء‏.‏ وأما قوله‏:‏ «إذا ذكرها»، فمعناه على المعهودية في الأوقات، يعني إذا ذكرها في الأوقات التي هي أوقاتها عند الشرع، أمَّا إذا ذكرها في الأوقات المكروهة، فليس ذلك وقتها عند الشرع‏.‏ وإنما وقت التذكُّر وقتها إذا صلاها في غير وقت الكراهة‏.‏ وهذا دَأْبُ الشريعة في غير واحدٍ من المواضع‏:‏ إذا فَرَغَت عن ذكر الشرائط مرةً، تَسْكُتُ عنها في سائر المواضع، وتُرْسِلُ الكلامَ اعتمادًا على تمهيدها من قبل‏.‏ ومن هذا الباب‏:‏ أحاديث الإيمان، وأحاديث الوعد والوعيد‏.‏

والذي يغفُلُ عن هذا يجعلُ كلَّ حديث كلِّية، ثم يقع في الخَبْطِ‏.‏ فهكذا ههنا، إذا مُهِّدَت مسألة الأوقات، وبُسِطَت في موضعها كلَّ البَسْطِ، لم تَبْقَ حاجةٌ إلى ذكرها في كلِّ موضعٍ، وصارت كأنها مفروغٌ عنها، ثم يكون بناء كلامه عليها نظرًا إلى تلك المعهودية‏.‏ فمن جوَّز الصلاة في الأوقات المكروهة، فقد عضَّ بإبهام «إذا»، وترك التواتر المنصوص، وعَدَل عن المكشوف إلى المجهول، مع أنه لم يَثْبُت عن النبيِّ صلى الله عليه وسلّم الصلاة في عين الطلوع والغروب ولو مرةً، ولو كان فيها وُسْعَةٌ لَثَبَتَتْ فيها أيضًا، كما ثَبَتَتِ الركعتان بعد العصر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏ولا يُعِيدُ إلا تلك الصلاةَ‏)‏ أشار به إلى ما وقعَ عند أبي داود‏:‏ «فإذا سها أحدُكم عن صلاةٍ، فَلْيُصَلِّها حين يذكرها، ومن الغد للوقت»‏.‏ وفي لفظٍ عنده‏:‏ «فمن أَدْرَك منكم صلاة الغَدَاة من غدٍ صالحًا، فَلْيَقْضِ معها مثلَها»، وظاهره‏:‏ أن كل من فاتَتْه صلاةٌ يُعيدها مرَّتين إذا ذكرها، ومن الغد إذا أتى وقتها‏.‏ قال الحافظُ بعدما نقل كلام الخَطَّابي مِنْ حَمْلِهِ على الاستحباب أنه لم يَقُلْ أحدٌ من السَّلف باستحباب ذلك أيضًا، بل عدُّوا الحديث غلطًا من رَاوِيه‏.‏ وحَكَى ذلك الترمذيُّ وغيره عن البخاريِّ‏.‏ ويؤيِّدُ ذلك ما رواه النَّسائي أنهم قالوا‏:‏ «يا رسول الله، أَلا نقضِيها لوقتها من الغد‏؟‏ فقال صلى الله عليه وسلّم لا، يَنْهَاكم اللَّهُ عن الرِّبَا، ويأخذَه منكم»‏؟‏

قلت‏:‏ وهو عندي محمولٌ على الاستحباب، كما قال به الخَطَّابي‏:‏ أنه يُشبه أن يكونَ الأمرُ فيه للاستحباب، ليُحْرزَ فضيلة الوقت في القضاء‏.‏اه‏.‏ والحديث عندي صالحٌ للعملِ، فلا يُسوَّغُ إنكاره أو التخلُّص بنحوٍ من التضعيف‏.‏ نعم، يجري البحث في أن مَنْ أَعاد الصلاة للتكميل، فهل يَسَعُ له أن يُصَلِّيهَا في الأوقات المكروهة‏؟‏ ويَلْزَمُ من أقوالهم أن ذلك واسع له‏.‏ ثم رأيت في مناقب الإِمام الأعظم رحمه الله تعالى أنه فاتته صلاةٌ مرةً، فكان يُعيدها إلى زمانٍ طويلٍ‏.‏

ثم إنه يَنْوِي عند الإِعادة تلك الصلاة بعينِها، وتقع عنه نفلا، لا أنه يَنْوِي النفل أيضًا، كما قاله به بعض الحنفية‏.‏ فإن الطحاويَّ قد صرَّح في مواضعَ من كتابه‏:‏ أن المذهب عندنا هو الإِعادة‏.‏ نعم، تقع نفلا، لأنه قد أسقط عنه الفرض بصلاته مرَّةً، وسنوضحه في حديث مُعَاذ بن جبل رضي الله عنه إن شاء الله تعالى، فاحفظه، فإنه ينفعك في مسألة إعادة الصلوات‏.‏

قال الحنفيةُ‏:‏ إن مَنْ صلَّى مرةً ثم أدركته الجماعة، فإنه يعيدها إلا الفجر والعصر‏.‏ وذهب الشافعيةُ إلى الإِعادة في الصلوات الخمس‏.‏ قلت‏:‏ وإن كانت الإعادة في كتبنا في الثلاثة فقط، إلا أن نفسي قد تتحدَّث بجواز الإعادة في الخمِيس‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

597- قوله‏:‏ ‏(‏أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي‏)‏ واسْتَشْكَلَ مناسبتَه بما قبله‏.‏ قلتُ‏:‏ والآية وإن وردت في موسى عليه الصَّلاة والسَّلام، إلا أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّم تلاها ههنا على معنى أن الصلاة للذكر، والذكرُ غير موقَّت‏.‏ فالصلاة إذا صارت قضاءً، انتقلت إلى شاكلةِ الأذكار، وبقيت غير موقَّتة مثلها، فلا يُتوهَّم أنها كانت موقَّتة بالوقت، فإذا ذهب الوقت، فلا قضاء لها‏.‏

ثم هناك دقيقةٌ‏:‏ وهي أن القرآن كثيرًا ما ينتقلُ إلى ذكر الأذكار عَقِيب ذكر الصلاة، فهل تدري لِمَ ذاك‏؟‏ والسِّرُّ فيه‏:‏ أنه يُشير إلى أنكَ إذا فَرَغْتَ عن الذكر الموقَّت، فعليك بِذِكْرِكَ السابق الغير الموقَّت‏:‏ ‏{‏فَاذْكُرُواْ اللَّهَ قِيَماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ‏}‏ ‏(‏النساء‏:‏ 103‏)‏، ولعلَّه نحو تلافٍ لِمَا عسى أن يقع منه من التقصير في صلواته‏.‏ ولذا لَمَّا فَرَغَ عن صلاة الخوف، قال‏:‏ ‏{‏فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلَوةَ‏}‏ ‏(‏النساء‏:‏ 103‏)‏ لينجبرَ به ما قد وقعَ من التقصير في صلاة الخوف، فإنه يكون فيها للإيابِ والذهابِ وغيرها‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَوةَ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ‏}‏ ‏(‏النساء‏:‏ 103‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَوةُ فَانتَشِرُواْ فِى الاْرْضِ وَابْتَغُواْ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَثِيراً‏}‏ ‏(‏الجمعة‏:‏ 10‏)‏‏.‏

وحاصلها‏:‏ أن روحَ العبادة هو الذِكْرُ، وقد جعله الله في اختياركم، أمَّا الصلاةُ، فإنها موقَّتة، قد تكون وقد لا تكون، فإذا فَرَغْتُم منها، فادخلوا في وظيفتكم الأصلية المطلقة‏.‏ ومحصَّلُه‏:‏ أنك إذا لم تكن عندك من وظيفتِك الموظفة، فاشغَلْ أوقاتك بذكر الله‏.‏ وراجع كلام الشاه ولي الله رحمه الله تعالى من «شرحه على الموطأ»‏.‏

باب‏:‏ قَضَاءِ الصَّلَوَاتِ، الأُوْلَى فَالأُوْلَى

قال أبو حنيفة ومالك رحمهما الله تعالى‏:‏ إن الترتيب مستحقٌ‏.‏ وعند آخرين‏:‏ إنه مستحبٌ‏.‏ وقال مولانا عبد الحي‏:‏ إنه لا دليلَ للحنفية على وجوب الترتيب، كما قال في مسألة المُحَاذاة‏.‏ قلت‏:‏ وقد مرَّ مني أن طلبَ النصوصِ في الاجتهاديات إتعابٌ للنفسِ، وعدولٌ عن سواءِ الصراط‏.‏ أَلا ترى أن نبيَ الله صلى الله عليه وسلّم لم يقضِ فوائته يوم الخَنْدَق إلا مْرتَّبة، وهذا القدر متفقٌ عليه‏.‏

بقي أن هذا الترتيبَ الذي عَمِلَ به‏:‏ كان على أنه واجبٌ عنده، أو مستحب، فهو من مراتب الاجتهاد كما أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّم لم يَصُف النساءَ إلا خلف الصفوف، حتى أَنه أقام العجوز مرةً خلفه، وجعل لها صفًّا وحدَها، مع أنه قال‏:‏ «من صلَّى خلف الصف وحده، فلا صلاةَ له»- بالمعنى ، فهل كان هذا التأخير، لأن محاذاتَها بالرجالِ مُفْسِدَةٌ لصلاتِهم، أو لأمرٍ آخر‏.‏ فهو أيضًا من مَدَارك الاجتهاد‏.‏ فحكم وِجْدَانُ أمامِنا بالوجوب في الموضعين، ولا يُسوِّغُك الاعتراض عليه‏.‏ نعم، لو أتيتَ بحديث يَدُلُّ على أنه صلى الله عليه وسلّم قضى فوائته غير مرتَّبةٍ، أو أقام النساء حِذَاء الرجال ولو مرَّةً، لكان كذلك مكان القول ذا سعة‏.‏ أمَّا إذا لم يُنقل عنه بخلافِهِ، فأيُّ بأسٍ في حملِ عمله صلى الله عليه وسلّم على الوجوب‏.‏

باب‏:‏ مَا يُكْرَهُ مِنَ السَّمَرِ بَعْدَ العِشَاء

إنما أعاد هذه الترجمة لتغايرُ السلسلة‏.‏ واعلم أنهم تكلَّموا في المشتقِّ أنه هل يُستعمل بمعنى اسم الجنس، أم لا‏؟‏ واتفقوا في الجامد، فيُطَلق على القليل والكثير‏.‏ والمشتّقُ يثنَّى ويُجمع، فتردَّدوا فيه لذلك، إلا أني رأيت في «الكشاف» في موضعين أنه جعلَ المشتقَّ اسم الجنس الأول في قوله‏:‏ ‏{‏كَيْدُ سَاحِرٍ‏}‏ ‏(‏طه‏:‏ 69‏)‏ والثاني‏:‏ ‏{‏وَلاَ يُفْلِحُ السَّحِرُ حَيْثُ أَتَى‏}‏ ‏(‏طه‏:‏ 69‏)‏، فقال‏:‏ إن اسم الفاعل المفرد معرَّفٌ باللام يكون بمعنى اسم الجنس، فافهم‏.‏

باب‏:‏ السَّمَرِ فِي الفِقْهِ وَالخَيرِ بَعْدَ العِشَاء

احتراسٌ عن توهُّمِ دخولِ المُذَاكرة بالمسائل تحت النهي عن السمر أيضًا‏.‏

600- قوله‏:‏ ‏(‏ورَاثَ علينا حتى قَرُبْنَا من وقت قِيَامِهِ‏)‏‏:‏ يعني أنه أبطأ علينا اليوم، حتى ظننا أنه لا يأتي اليوم، لأنه حانَ وقت قيامه عن مجلسنا، فقال‏:‏ «إن الناس قد صَلَّوْا، ثم رَقَدُوا»‏.‏ وقد مرَّ في حديثٍ أنه قال حين تأخَّر عنهم‏:‏ «إنه ما ينتظرها أحدٌ غيركم»، فإمَّا أن يُحْمَلَ على أنهما واقعتان، وإن كانت الواقعةُ واحدةً، فالأَمرُ سهلٌ أيضًا‏.‏

601- قوله‏:‏ ‏(‏وإنكم لم تَزَالُوا‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ، وهذا من بابِ إقامة الشرعِ لمن انتظر الشيء، فإنه يَعُدُّه بمنزلة الداخل فيه‏.‏

باب‏:‏ السَّمَرِ مَعَ الأَهْلِ والضَّيف

602- قوله‏:‏ ‏(‏فليذهب بثالثٍ‏)‏ يعني من أهل الصُّفة‏.‏ ‏(‏قال‏)‏ يعني عبد الرحمن ‏(‏فلا أدري‏)‏ من قول الراوي إنه لم يحفظْ هل ذَكَرَ الخادمَ والزوجة أم لا‏؟‏ ‏(‏وخادم بين بيتنا‏)‏ يعني أن هذا الخادم كان يخدم في بيتنا وبيت أبي بكر رضي الله عنه‏.‏

602- قوله‏:‏ ‏(‏وإن أبا بكر تعشى‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ وفيه توسُّع الراوي، وإلا فالظاهرُ أنه أكل الطعام مع النبي صلى الله عليه وسلّم

602- قوله‏:‏ ‏(‏ثم لَبِثَ حيث صُلِّيَتِ العشاء‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ يعني مكث هناك إلى تلك المدة، ‏(‏ثم رجع‏)‏ يعني بعد أداء الصلاة ومكث في حُجرة النبي صلى الله عليه وسلّم ‏(‏فجاء‏)‏ أي بعد ما مضى من الليل، وإنما رَاثَ عليهم لأنه اطمَأَنَّ أنه قد أمرَ أهله أن تُطعَمَ الضيوف‏.‏

602- قوله‏:‏ ‏(‏فجَدَّعَ وسَبَّ‏)‏ ‏(‏كوسنى دئي‏)‏ «وايْمُ الله» همزة وَصْلٍ، كما في الاسم والاثنين‏.‏ «غنثر» ذباب الكلب «بني فراس» وكانت من هذه القبيلة «لا وقرة عيني» «لا» زائدة‏.‏ وفيه حَلِفٌ بغير الله‏.‏ واحفظ أنه حَلَفَ بمثله في أربعة مواضع‏:‏ الأول‏:‏ في قصة الإفك، والثاني‏:‏ «أَفْلَحَ، وأبيه، إن صَدَقَ»، والثالث‏:‏ في هذه الواقعة، والرابع‏:‏ في موضعٍ آخر‏.‏

قال الشوكاني‏:‏ إنه من فلتات لسانه صلى الله عليه وسلّم قلت‏:‏ إنَّ تجويزَ سَبْقَةِ اللسان في مواضع الشِّرْك مُسْتَبْشَعٌ جدًا، والصواب ما ذكره جَلَبِي‏:‏ أن المحظورَ هو الحَلِفُ الشرعي لِمَا فيه من التعظيم لغير الله بخلاف اللُّغَوِيّ، فإنه لتقوية الكلام فقط، وهو جائزٌ لعدم اشتماله على معنى محظورٍ، ومع ذلك أصلحه الشرع، وقد بقي في مواضع بَعْدُ‏.‏

قلت‏:‏ ولا ينبغي لمثل هذا الحَلِفِ أن يسمَّى يمينًا، فإن اليمينَ والحَلِفَ قد شاع في العُرْف في مصطلح الفقهاء، فلا يَتَبَادَرُ الذهنُ إلا إليه، فلو سمَّاه النُّجَاةُ استشهادًا لكان أحسن وأحكم‏.‏ ولعلَّه لم يكن في أذهانهم أيضًا إلا اليمين اللُّغَوِيّ، أي بمعنى الاستشهاد، ثم التُبَسَ الأَمرُ على الناس لشيوعه في اليمين الفقهيّ، فَذَهَلُوا عن النوع الآخر‏.‏ وإذن فالتقصير في التسمية، لا في حقيقة هذا الحَلِف‏.‏

والجَلَبِي لغةً‏:‏ رومية بمعنى المولوي والصوفي، والأوصاف في الرومية تتأخَّر عن موصوفاتها، بخلاف الهندية‏.‏ وملا حسن جَلَبِي هذا أستاد أخي يوسف جَلَبِي مُحشي «شرح الوقاية»‏.‏

وهكذا أقول‏:‏ إن الفقهاء لم يُحْسِنُوا في إطلاق الصِّحَّة على كراهة التحريم، فقالوا‏:‏ من تعمَّد الحدَث بعد التشهُّد الأخير، صحَّت صلاته، مع أنها تُكْرَهُ تحريمًا‏.‏ ومن هذا الباب قولهم‏:‏ جَازَ في المحل المكروه، فإنه كلَّه موهمٌ بانتفاء الكراهة، فلو لم يُطْلِقُوا لفظ الجواز والصِّحَّة على المكروه، لما وَرَدَ علينا كثيرٌ من الإيرادات التي أوردها الخصوم لأجل هذا التقصير فقط، فإنه إذا قيل إنه صحيحٌ أو جائزٌ وَرَدَت علينا نصوصُ النهيِ فيه، فإذا قيل‏:‏ إنه مكروهٌ اندفع، لأن ظاهر هذه الألفاظ تُوهِمُ انتفاء الكراهة أيضًا، فكان الأَوْلى تركه، وسيجيء توضيحه أزيد من هذا فانتظره، والله الموفِّق‏.‏

ثم ههنا دقيقةٌ تُفِيْدُك في مواضع، وهي‏:‏ أن الشيءَ قد يكون جائزًا في نفسه ومحظورًا لكونه موهمًا لجانب آخر، فلا يُحْكَمُ عليه بالجواز أو بالحرمة كليًا، ولكن الأمر فيه إلى المفتي، فإن رَأَى أن الناس يتضرَّرون منه لإِيهامه خلاف المقصود، عليه أن يَمْنَعَ عنه‏.‏ وإن لم يَرَ فيه ضررًا، فله أن يتركه على الجواز في نفسه على ما كان‏.‏ وهذا الباب ممَّا تعرَّض إليه القرآن، بل أقامه فقال‏:‏ ‏{‏لاَ تَقُولُواْ رعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا‏}‏ ‏(‏البقرة‏:‏ 104‏)‏، فقول‏:‏ ‏{‏رعِنَا‏}‏ وإن جاز في نفسه، إلا أَنَّه لمَّا أَوْهَمَ بخلاف المقصود حيث كان اليهود يَلْوُون به ألسنتهم، ويُشْبِعُون الكسر، ويقولون‏:‏ راعينا، لعنهم الله- نهى عنه القرآن‏.‏ فمتى ما يرتفع هذا الإيهام، يَعُودُ جوازُ الإطلاق على حاله‏.‏ فالمسألة في مثل هذه الأشياء أيضًا كذلك، هكذا يُعْلَمُ من باب الحظر والإِباحة من «الكنز»‏.‏

فائدة

واعلم أن الذكر باسم الله هو الذي عُرِفَ في الشرع ذكرًا، أمَّا تكرار اسم النبيِّ صلى الله عليه وسلّم فلم يُعْهَد ذكرًا، فلعلَّه لا يكون فيه أجرًا لذكر، وإنما طريق ذكر النبيِّ صلى الله عليه وسلّم وتحصيل الأجر منه‏:‏ أن تُصَلِّي عليه، فالثواب بالنسبة إلى جَنَابه تعالى بذكر اسمه، وإلى جَنَاب النبيِّ صلى الله عليه وسلّم بالصلاة عليه، وبها وَرَدَ الشرع‏.‏ وكذلك‏:‏ يا شيخ عبد القادر الجِيلانِي، شيئًا لله لم يُعْهَد ذكرًا، فلا يترتَّب عليه أجرٌ، بل هو لغوٌ يُخْشَى أن يترتَّب عليه وِزْرٌ، لا سِيَّما إذا اعْتَقَد به ما خَالَفَ الشرع، وعلا فيه وتَجَاوَز عن الحدِّ، فإنها من الكلمات التي تُوهِمُ خلاف المقصود، فَيُنْهَى عنها‏.‏

وما في بعض الفتاوى من الرخصة، فمبنيٌّ على التكلُّم به بشرط إن لم يكن مُوهِمًا بخلاف المقصود، أمَّا اليوم، فقد فَسَدَت عقائد الناس بما تَقْشَعِرُّ منه الجلود، وكادت أن تَبْلُغ الكفرَ، بل ربما جاوزت الكفر، فينبغي أن لا يُفْتَى بمثل هذه الكلمات، لئلا يَدْخُل عليهم الشيطان من هذا الباب، فَيُفْسِدُ عليهم دينهم وهم لا يعلمون‏.‏ فَلْيَرَ كلُّ إنسانٍ دينه، ولا يَتَشَبَّثْ من أقوال الفقهاء بما ليس بمرادهم‏.‏

602- قوله‏:‏ ‏(‏وكان بيننا وبين قوم عقدٌ‏)‏‏:‏ يعني العهد، وقد كانت مدته تمَّت، وكان نُقَبَاء القوم جاءوا إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلّم ليتكلَّمُوا في أمرهم، فَقَسَمْنَا نقباءهم اثني عشر نقيبًا، ولا يَدْرِي كم كانوا مع كل نقيبٍ، فأكلوا كلُّهم وشَبِعُوا، وكان الطعامُ بعد قيامهم عنه كما كان حين وُضِعَ بين أيديهم‏.‏

حكاية

وكَتَبَ ابن خَلِّكَان‏:‏ أن السلطان محمود كان أميًّا مَحْضَا، فأراد أن يَرَى صلاة الشافعية والحنفية رحمهم الله تعالى، ويختار أعجبها إليه‏.‏ فجاء القَفَّال الشافعيّ، وحَكَى عن صلاة الحنفية، فَطَلَب جِلْدَ كلبٍ، وألقى فيه النبيذ، ثم صلَّى يَرْكَعُ ويَسْجُد فقط، ولا يعدِّل الأركان، وإذا بَلَغَ موضع السلام حَدَثَ عمدًا، وقال‏:‏ هذه صلاة الحنفية‏.‏

ثم حَكَى عن صلاة الشافعية رحمهم الله تعالى، فأَدَّاها مع التعديل كما أمره الله، فاسْتَحْسَنَ السلطانُ صلاةَ الشافعيةِ رحمهم الله تعالى وصار شافعيًا‏.‏ ثم اتفق بعد زمان أن حنفيًا حَكَى عن صلاة الشافعية رحمهم الله تعالى، ويُقَال له القَفَّال أيضًا، فَطَلَبَ القُلَّتَيْنِ، وألقى فيهما أرطالا من النجاسات، ثم توضَّأ منه وصلَّى‏.‏

ولكني متردِّدٌ في هذه القصة، لأني رأيت في طبقات الحنفية‏:‏ أن السلطان محمود كان حنفيًا فقيهًا، وتصانيفه تُوجَد في تلك الخطة، وطبقات الحنفية أَثْبَتُ عندي من طبقات الشافعية رحمهم الله تعالى‏.‏ فتردَّدت في نقل ابن خَلِّكَان من وجوه، والله أعلم‏.‏